الجمعة - 26 أبريل 2024
الجمعة - 26 أبريل 2024

تجارة الكلام

ظاهرة الكلام الكبير أو إن شئت قُل «استفحال الكلام» من المظاهر القديمة عند البشر. وكانت ولا تزال إحدى المنافذ التي يمارسها من لديه قدرة على صياغة كلام كبير يُبهر به الناس وفي الوقت نفسه يخدرهم به. وشهد القرن الخامس قبل الميلاد ظهور أولى الفرق المستفحلة للكلام وذلك في العهد اليوناني القديم. فقد مارس السفسطائيون هذه العادة وأخذوا يتاجرون بمهاراتهم في الخطابة ويدعون المعرفة بالطبيعة وأسرار الكون، حتى ألقى هذا الاستفحال بظلاله على المجتمع الأثيني وأصبح عامة الناس يسمعون جعجعةً ولا يرون طحناً. حتى إن حكماء أثينا كسقراط وأفلاطون سعوا جهدهم لمحاربة عبث السفسطائيين وحاولوا وضع الحدود لاستفحال ظاهرة الكلام. وفي وقتنا هذا أصبح الإنسان العربي أشد استفحالاً من غيره لظاهرة الكلام الكبير. فهو يتحدر من أسلاف كانوا يولون جُل اهتمامهم للخطابة والشعر والجدل، وكان اللسان بما يتفوه به صاحبه، الأداة الحادة لإفحام الخصوم والرد عليهم. وما أشبه الليلة بالبارحة، فنحن على جميع الصعد نسمع كلاماً كبيراً ولا نكاد نرى أثراً لهذا الكلام. فبين وعود رنانة وكلمات تتلبس الحزم، لا نشاهد بين أيدينا وفي ظاهر واقعنا الذي نحياه أي عمل. كل ما هنالك فن خطابي ينتهي عند إتقان الصياغة فحسب. إن ما نشاهده من نماذج قليلة مشرقة لبعض الدول العربية، لا ينفي معاناة الإنسان العربي عامةً من تخلفه عن مجاراة جيرانه في الأمم الأخرى. ولن نقول مجتمعات أوروبا وأمريكا، بل جيرانه في القارة الآسيوية. إن أفراد المجتمع عامةً في كوريا واليابان مثلاً، لا يمارسون الاهتمامات نفسها التي يمارسها أفراد المجتمع العربي. وذلك يرجع لأسباب من أهمها أن السلطات التشريعية في تلك البلدان تتسم بنُدرة الكلام وكَثرة الفعل، وأثر ذلك لا محالة هو أفراد مُنتجون. أنهم يتقدمون بالعمل بينما نتقدم نحن في عالمنا العربي في فنون الكلام الكبير. إن ما يقوي عزيمة الإرادة لدى الإنسان العربي هو وضع الأقوال في ميزان الأفعال، ولا يكون ذلك إلا من خلال أصحاب الرأي ومن بيده أي سلطة. ومتى أدى صاحب السلطة أمانته وابتعد عن ظاهرة استفحال الكلام الكبير، وشعر بمسؤولية إعمال هذا الميزان، أمكن له ولأفراد مجتمعه إثراء «روشتة» العمل الذي ينهض بكل منهما. فالكلام الكبير المُنمق ليس إلا مرض علاجه صدق العمل.