الأربعاء - 24 أبريل 2024
الأربعاء - 24 أبريل 2024

التقويم .. وأوراق العمر

من العادات الجميلة التي عودنا عليها والدي، رحمه الله، مطلع كل عام شراء التقويم السنوي .. ذلك الذي يتكوّن من أوراق بعدد أيام السنة، يتضمن وجهها الأمامي اليوم والتاريخ بالهجري والميلادي، ومواقيت الصلاة، ومن الخلف معلومات متنوعة من الحكم والأمثال إلى الطرائف والأحداث السنوية. كنا نحجز نسختنا من مكتبة قريبة لبيتنا قبل نفاده، فقد كان في تلك الأيام سلعة رائجة تحتكرها مطبعتان كبيرتان، ولكل واحدة منهما تقويم يختلف نسبياً عن الأخرى، فالمطبعة التي دخلت هذا المجال لاحقاً، أضافت في الوجه الأمامي معلومة صغيرة جداً كل يوم، ومن ذلك مثلاً أن القدس ظلت تحت حكم الصليبيين 88 عاماً، وأن مدينة نابلس الفلسطينية تسمى «دمشق الصغرى» وما إلى ذلك من معلومات، كنا نتسابق على حفظها يوم كنا نجتمع مساءً مع إخوتنا وأصدقائنا. كان التقويم السنوي جزءاً رئيساً في بيتنا، كنا نضعه في غرفة الاستقبال الرئيسة، ونتعامل معه باهتمام كبير. ففي ذلك الوقت لم يكن للتلفزيون حضور كبير في حياتنا، بسبب محدودية القنوات المتاحة، والتي لم تكن تتجاوز اثنتين أو ثلاثاً في أفضل الظروف، وطبعاً لا وجود لأجهزة الكمبيوتر أو شبكة الإنترنت. كانت هواياتنا محدودة، وأوقات فراغنا الطويلة تبحث باستمرار عما يشبعها، الكتب وحدها كانت رفيقة الناس في تلك الأيام، ولا يكاد يمضي علينا أسبوع واحد من دون أن نقتني كتاباً جديداً، كان في الأغلب يأتينا من مصر أو الأردن أو سوريا أو لبنان، فانغرس فينا حب الكتب وعشق الكلمة المقروءة منذ الصغر. لذلك، وجدنا في أوراق التقويم إضافة مهمة لتطوير معارفنا، فالمعلومات التي يتضمنها غنية ومتنوعة، وكانت باستمرار تفتح أمامنا مجالات أوسع للبحث والتفكير، فحين كنا نقرأ معلومة غريبة نسارع الخطى إلى المكتبة العامة، أو مكتبة المدرسة الأصغر حجماً، للاطلاع على معلومات أوسع عما قرأنا عنه، وكم من مرة كنا نلتقي مع بعض زملاء الدراسة أو جيران الحي في المكتبة لنكتشف أننا نبحث جميعاً عن المعلومة ذاتها، وهو ما شكّل أمامنا جلسات حوار لا تنتهي إلا مع إغلاق المكتبة. وأذكر أنني كنت أحتفظ بما يعجبني من تلك الأوراق في صندوق خاص، حتى إذا انتهى العام قمت بإعادة كتابتها بخط اليد في دفتر خاص مصنّف إلى أبواب: حكم، أمثال، شعر، شخصيات، أحداث .. وهكذا، وهو ما طوّر مهاراتي اللغوية وأسلوبي الكتابي، وجعل الصحافة موهبة نمت معي منذ الصغر. على أن أطرف ما في الأمر، هو ما كان يحدث حين ينزع أحدنا ورقة اليوم في منتصف النهار مثلاً، ويحتفظ بها من دون أن يقرأها الآخرون، فنسارع إلى البحث عنها، ونصر على قراءتها، و«نحرم» من أخذها في هذا اليوم من ورقة الغد. ولأن التقويم كان كبيراً وسميكاً في بداية العام بحكم وجود 365 ورقة فيه تقريباً، كنا نتمنى أن ينقضي سريعاً حتى نخفف من ثقل الأوراق فلا تسقط على الأرض وتتبعثر، ومع كل ورقة ننزعها كنا نفقد يوماً جميلاً من حياتنا .. يومها كان الناس غير أهل هذا الزمان، كان الصدق والحب والإخلاص والتعاون أسلوب حياة، وبساطة العيش وهدوء النفوس منهجاً يسير عليه الجميع، كانت أكبر مشكلة تحل بأصغر كلمة، والجار كان أقرب من الأخ والعم والخال، وكلمة الكبير مسموعة ومقدّرة من الجميع، والأسرة مترابطة مهما تباعد أفرادها، وصلات الرحم متأصلة، فكان لكل يوم يمضي ذكراه الجميلة في النفوس والعقول والقلوب، رحم الله تلك الأيام!