الخميس - 25 أبريل 2024
الخميس - 25 أبريل 2024

مكان

«إن المكان ليس جامداً أو محايداً، إنه الحاضنة التي تتكون فيها الأفكار والعلاقات، وتُكتسب من خلالها حتى الملامح ونمط القول والنظرة، وبالتالي يترك المكان بصمته القوية على البشر والشجر وكل ما ينهض فوقه، وللأمكنة بعد آخر يتحكم فيها الزمن» (عبدالرحمن منيف). تتجرد الأمكنة من ماديتها حالما نستدعيها من ذاكرتها، إذ في تلك اللحظة ما يتم استحضاره ليس صوراً فوتوغرافية، أو أشكالاً هندسية بعينها مررنا بها ذات يوم، استوطنت سنوات عمر، بل هي حالة خاصة مشبعة بفيض معنوي خالص، تتم في خضمها «أنسنة» المكان بكل تفاصيله تحيله إلى شاخص يستدعي حواسك جميعاً ودمعك أحياناً. العلاقة التي تنشأ لاإرادياً مع مرور الوقت لتخلق نوعاً من المواءمة النفسية، بتفضيل زاوية في مكان ما، سواء كان بيتاً، مقهى، حديقة، أو مدينة، إلخ ... هنا يصبح للمكان صفة الحاضنة، أو المدونة السرية لبثك اليومي الذي تقتطعه من وقتك للاختلاء بذاتك. وهذا ما يمكن أن أفسره من تشبث والدتي بأريكتها الأثيرة على نفسها ضمن مجلسنا العائلي الواحد، برغم أن جميع الأرائك متشابهة ومن الفئة ذاتها، إلا أنه لا يستويها الجلوس إلا عليها، إلى جانب منضدتها الجانبية التي تعلوها كامل إكسسوارتها التي تتداولها يومياً، كالمسبحة وأدويتها اليومية وغيرها، حتى اكتسبت زاويتها رائحة عطرها المميزة، ووضعية اتكائها، لتنُشئ ركنها الخاص دون أن يجرؤ أحد على التعدي عليه. وكما يقول الكاتب القدير حسن مدن في كتابه «زهرة النيلوفر»: «المكان الصديق قد لا يعدو أن يكون غرفة في بيتك، أو زاوية حميمة تشعر فيها بألفة خاصة، كأنها محراب تلوذ إليه للتوحد، فتتحول إلى فضاء لامتناه من الحرية ومن سكينة النفس والفؤاد، تتكثف فيها مع الزمن ذكريات حلوة وأحاديث معطرة وتأملات هادئة لا تنسى». فلا ريب في أن نسمع قصائد ترثي مكاناً أو مدناً تحولت إلى طلل تبكيه مهج الشعراء حسرة وأسفاً عليه، ولا مرثية أبلغ وصفاً في فقد العرب المسلمين لمُلكهم الأخير في الأندلس من قصيدة أبي البقاء الرندي الشهيرة قائلاً: لكل شيء إذا ما تم نقصانُ فلا يغرّ بطيب العيش إنسان هي الأمور كما شاهدتها دول من سرّه زمن ساءته أزمان وللحوادث سلوان يسهلها وما لما حلّ بالإسلام سلوان فالمكان يتأثث برواد، فهم من يمنحونه تلك التفاصيل الخاصة والروح والذاكرة، هو الشاهد على قصصهم وحكاياهم، وإيماءاتهم، فرحهم وحزنهم، دمعهم وضحكهم، ذاك الذي ما إن يتراءى لك كأنه قارورة عطر معتق، حتى تتفتح بك كل خلايا حنينك. للتواصل مع الكاتبة:[email protected]