الجمعة - 19 أبريل 2024
الجمعة - 19 أبريل 2024

لم تبلغ وصاياهم قلوبهم

قال لزوجته: «اسكتي، وقال لابنه: انكتم، صوتكما يجعلني مشوش التفكير .. لا تنبسا بكلمة .. أريد أن أكتب عن حرية التعبير» ..أحمد مطر. الشعراء لا يكذبون في كل حين، ولا يتفردون بخيال مجنون يجعلهم يتصورون أحداثاً لم تحدث في الواقع، إنهم أبناء المواقف، وتصوراتهم رهينة المتاح منها أمامهم، مثلنا تماماً. أعني بأن أحمد مطر يبدو أنه لم يؤلف هذه القصة الشعرية من رأسه بل لابد أن هناك مناسبة حصلت أمام ناظريه وقف فيها على حالة أب مغرور شرس يصرخ في زوجته وابنه ليخرسهما بهذه الطريقة نفسها ثم يتفرغ للكتابة عن حرية التعبير. كم أشعر بالمقت لهؤلاء الذين اعتادوا أن يلقنوا الجموع الصامتة حولهم قيماً لا تتجاوز حناجرهم هم، وما إن يقع في امتحان عملي له حتى تتجلى الفظاعة ويسقط عند أول منحنى بفعل قوة القصور الذاتي فيزيائياً، وهو قصور عقلي لو رغبنا الدقة في الأمر. يكون لدى الواحد من هذا الصنف ذلك اليقين الذي لا يتزعزع بأن التعاليم المصفحة الصماء قادرة على الحفاظ على لباقته وصيته كإنسان مرن يملك قناعات متزنة ومحبوكة وآراء الناس بالنسبة له مهمة ومرحب بها، لكن لديه اعتقاد بغيض بأن القناعات يجب أن تخرج منه هو كمصدر فقط لتلتصق بغيره ويخلي نفسه من تبعات التطبيق. الناس لا يكفيها المعرفة دون الممارسة، لقد أمسك هذا بزمام الأمر من أسهله وهو الجانب اللساني الذي لا يكلف غالباً إلا تحريك اللسان، وسطوته الكلامية تكفي لملء مجلد كبير، لكنه ترك الجانب الأصعب (التنفيذي) مهمة غير مسؤول عنها ولا تعنيه. سيبقى منشغلاً وجاداً في تعليم الناس كل تلك الخبرات التي لا ينفذها، ثم يتبدى إفلاسه وتتضح معالم هذا المخطط الفاسد فور أن يضع مقالاً له إن كان من هؤلاء الذين يكتبون، يمجد فيه حرية الرأي وضرورة الاشتغال بنشر مبادئه في نطاقات أرحب، وبعد أن تنهال الردود المعارضة وإن كان طابعها الهدوء يتحول إلى كتلة أعصاب حية ووقحة ليثبت للناس عملياً استحالة تطبيق هذه النظرية في الميدان. والتفسير الوحيد لهذا هو أن التغيير والأفكار الخلابة لم تلامس داخله هو، وعليه فينبغي ألا يتوقع قبولاً طالما التجربة العملية تتعداه كل مرة. في مشهد من فيلم «الأب الروحي» يمسك البابا بقطعة حجر مبتلة ويحطمها ويقول: «هذا الحجر مثل أوروبا، مبتل بالماء من الخارج، لكن الماء لم يبلغ قلبه، وهكذا هي أوروبا لم يبلغ الدين منها موضع القلب».