الجمعة - 19 أبريل 2024
الجمعة - 19 أبريل 2024

جرس الغوص .. والفراشة

فيلم The diving bell and the butterfly فرنسي ينتمي إلى أفلام السيرة الذاتية من إخراج المخرج الأمريكي جوليان سكاندبل (مخرج فيلم Miral) من إنتاج 2007، الفيلم مأخوذ عن مذكرات جان دومينيك (بطل الفيلم) التي حملت العنوان نفسه والتي نشرت قبل وفاته بأسابيع قليلة. يحكي الفيلم السيرة الذاتية لمحرر مجلة إلى مجلة الموضة الفرنسية الشهيرة «جان دومينيك» الذي يتعرض لجلطة دماغية تعجزه عن الحركة تماماً، فقط عينه اليسرى التي بقيت تتحرك لتبقى وسيلته الوحيدة للتواصل مع العالم من حوله، فكان يرمش بجفن عينه اليسرى .. لكن هذا الفيلم ليس كأي فيلم سيرة ذاتية آخر شاهدته في حياتك. لكنها تجربة بصرية فريدة ومربكة أحياناً بصرياً ونفسياً. الربكة «الدهشة» يصنعها الفيلم منذ اللقطة الأولى. في المشهد الأول حين يستفيق جان دومينيك من «الكوما» في المستشفى نرى الحركة الدؤوب التي تعقب ذاك من خلال طاقم المستشفى عبر أشباه كادر ولقطات حادة وغير منضبطة ولقطات قريبة وقريبة جداً لوجوده بشرية .. تجعل جغرافية المكان بالنسبة إلينا في حالة سيولة وغير محددة تجعلك كمشاهد غير قادر على تحديد موقعك بالضبط من المكان. وكأنك تستفيق من كوما. حينها يبدأ جان دومينيك بالكلام، لكننا نعلم بعد قليل أن الآخرين لا يسمعون جان وأنه يتحدث إلى نفسه، وأن كل هذا التشويش الذي نراه هو لأننا نعيش الآن داخل دماغ جان. المخرج وضعنا داخل عقل وعين جان دومينيك منذ الوهلة الأولى، هو بالطبع مكان مربك وغير مريح أن تعيش هناك وأن تقترب من شخص آخر إلى تلك الدرجة، لكن المقصود أن تبقى أنت أيضاً عالقاً في جسد عاجز، من خلال تلك العين فقط تستطيع رؤية الحياة كما رآها جان دومينيك. حيث نشاهد الفيلم بالكامل من وجهه نظر عين جان اليسرى من خلال حركة كاميرا سريعة، زواية حادة وأحياناً خارج تركيز العدسة، لقطات مكبرة لوجوه بشرية تنظر إليه وكأنها تنظر إلينا مباشرة. كل شيء حولنا سريع ومشوش، لا نرى ما يراه جان فقط، بل إننا نسمع صوته الداخلي وهو يعلق على كل ما يدور حوله من حركة، أحياناً يعمد المخرج إلى لقطات محايدة خارجة من هذا السياق للخروج من شكل القالب الواحد، لكنه يعود برشاقة فراشة إلى السياق الأساسي. بعد اللقطة التي يسمع فيها جان الدكتور وهو يتحدث عن حالته الصحية، يقطع المخرج على صورة لبدلة غوص ثقيلة تغرق إلى الأسفل وجان عالق بداخلها ويصرخ، تلك البدلة التي ستتكرر كثيراً كمرادف بصري وربما حيلة ذهنية يعبر بها جان عن غضبه أو عجزه. لكن مخيلة جان لا تقف عند هذا الحد، حيث يبحر الفيلم داخل تلافيف دماغ جان لنلج إلى عوالمه الداخلية، وهي بالمناسبة مهمة صعبة جداً على طبيعة السرد السينمائي البصري. العين تأخذك إلى المخيلة الجامحة الخصبة بما أن الواقع جزئي محطم ومهشم وغير واضح تماماً، لتتحول غرفة جان البيضاء الباردة إلى مستودع للفراشات وبحر ونساء وثلوج في مونتاج سينمائي سريع ولاقط لكل الأشياء والحيوات المشتهاة التي كان جان يحلم بها. لعب المخرج خلالها على متناقضات الحركة والسكون، كل ما يدور حول جان ضجيجي ومتحرك سواه، هذه اللعبة السينمائية التي توصلنا مباشرة إلى المعنى الحقيقي لحالة جان دومينيك الصحية والنفسية. الملفت أن الفيلم لم يكن في حال من الأحوال محبطاً أو كئيباً كما تقترح القصة، بل على العكس الفيلم منطلق ومليء بالطاقة والحركة ولم يقع في فخ الميلودراما الذي وقعت فيه أفلام مشابهة كفيلم «My Left Foot» الذي كان هو الآخر سيرة ذاتية لفنان تشكيلي ولد مشلولاً ويتعلم الرسم برجله اليسرى. شخصية جان دومينيك هنا ليست شخصية عالقة وتستجدي التعاطف بل هي شخصية تتعامل مع واقعها الجديد بشكل مختلف عبر صنع عالم متخيل ومدهش، حتى إن تعليقاته أحياناً لا تخلو من الدعابة على عكس شخصية كن هاريسون مثلاً في فيلم «Whose Life Is It Anyway» الذي أصيب بالشلل الكامل بعد حادث سيارة، والتي بدت شخصية مرحة بروح عالية لكنها سرعان ما دخلت شيئاً فشيئاً إلى منزلق الإحباط والسودادية .. جاءت شخصية جان أكثر ثراءً وابتكاراً وتشبثاً بالمعجزة. ليس فقد التشبت بها بل صنع المعجزة ذاتها حين يطلب جان وهو عالق في فراشه أن يكتب كتاباً حول كل ما يجول ببصره (مخيلته)، يقوم المستشفى الذي ينزل فيه بتطوير طريقة للتواصل لغوياً مع العالم مستعيناً بمعالجين لغويين. طريقة التواصل هذه بالنسبة لي من أكثر الأشياء المثيرة للاهتمام (للإحباط أحياناً) في الفيلم، حيث تقوم الممرضة بذكر الحروف حسب تسلل شيوع نطقها بين الناس، فيقوم جان بتحريك جفنه اليسرى حين يسمع الحرف المراد لتدونه الممرضة في الدفتر حرفاً حرفاً في عملية مؤلمة وطويلة تتطلب الكثير من المثابرة الصارمة .. الكتاب بالطبع رأى النور قبيل موت جان دومينيك، وكان المادة الأساسية التي استند عليها السيناريو. على الرغم من الخيارات الفنية الصعبة التي اختارها المخرج من خلال حركات الكاميرا والإضاءة والزوايا الحادة وحس الأفلام العائلية والتي غالباً ما نشاهدها في أفلام فنية ونخبوية أو كما يطلق عليها أفلام مهرجانات إلا أنه لا يمكن القول إن الفيلم كان صعباً من الناحية السردية (لم يكن فيلماً سهلاً كذلك) بل ثمة منطقة آمنة لعب عليها المخرج للخروج بفيلم حظي بإعجاب الجمهور العادي والنقاد المتخصصين. فاز المخرج بجائزة أفضل مخرج في مهرجان كان السينمائي 2007. وفاز الفيلم أيضاً بجائزة أفضل فيلم ناطق بلغة أجنبية، ورشح رونالد هاروود للحصول على جائزة أفضل سيناريو في العام نفسه لكنه لم يفز بها للأسف.