الجمعة - 19 أبريل 2024
الجمعة - 19 أبريل 2024

تشرنوبل النووية الحدث المأساوي

المتابع لمسلسل أحداث تشرنوبل وما رافقها من إفرازات كارثية في مستوى الإضرار التي خلفته على الواقع الاجتماعي يدرك حقيقة الأسباب التي أدت إلى ذلك، وعلى الرغم من أن مسؤولية ما نتج من أضرار مضاعفة تتحمله حصراً القيادة السياسية الممسكة بزمام القرار في تلك المرحلة والتي كان بوسعها تغيير مجرى الأحداث والنتائج، إلا أنه ينبغي عدم تجاهل العوامل الأخرى المسؤولة أيضاً، في حصيلة ما جرى تبيانه من أضرار، وأن ذلك نتيجة رئيسة لتعاطيها السلبي في إدارة عملية ملامستها لواقع الأحداث. ويشكل الإعلام عنصراً رئيساً في عملية إدارة أحداث تشرنوبل، ومارس دوره السلبي في التسبب في مضاعفة حجم الأضرار، حيث إن الإعلام كان منحازاً ومسيساً وسلبياً ولم يكن مهنياً، فاتخذ نهج التضليل وذر الرماد في العيون وحجب الحقيقة عن المجتمع، كما اتخذ نهج المبالغة وبث الأخبار الكاذبة والمغلوطة وغير المنطقية في بعض تفاصيلها، بيد أن كلا النهجين كانت تسيرهما الآيديولوجيا السياسية والمصالح القطبية، وذلك جزء رئيس من استراتيجية الحرب الباردة التي كانت تحكم العلاقات الدولية آنذاك، وضاعف ذلك النهج الإعلامي العقيم في مختلف اتجاهاته من حجم المأساة وأضرارها. وفي الواقع الذي شهدناه كان الإعلام الرسمي في الاتحاد السوفييتي السابق يبث أنباء غير صحيحة ومفبركة وكاذبة لا تعبّر عن الواقع الملموس ولا تلامس الحقائق الدقيقة لمجريات الأحداث، ومن دلالات ذلك، تابعت مقابلة متلفزة مع طلبة أجانب نقلت من محطة القطار في موسكو، حيث توجه عدد كبير ممن فضلوا مغادرة كييف لحماية أنفسهم من تأثير الإشعاعات، وكان من بينهم جاري في السكن الجامعي وزميلي في الدراسة شيخ محمدوه، من مالي، الذي قال «إن الأمور طبيعية وليست هناك دلائل على تلوث إشعاعي في مدينة كييف». وعند عودته سألته لماذا هذا الكذب؟ قال كنت مضطراً لأنني سافرت من دون «فيزا»، وإذا تحدثت بغير ذلك فسوف أحرم من الامتحانات النهائية للتخرج. وتسبب ذلك في جهل المجتمع بحقيقة الكارثة وأبعادها الخطيرة على الصحة العامة، ما جعل السكان يتوجهون في مجموعات إلى شواطئ الأنهار والبحيرات والغابات للراحة من تعب النهار ويستلقون تحت الشمس وكأن شيئاً لم يحدث، كما أن الطاقم الطبي الذي أشرف على معالجة فرقة الدفاع المدني لم يكن يدري أنه يتعامل مع أجسام مشبعة بالإشعاعات النووية، وتسبب حجب المعلومات في مضاعفة الأضرار وموت الكثير من الأبرياء. كما أن الإعلام الخارجي هو الآخر مارس دوراً سلبياً في بثه المعلومات الكاذبة عن آثار الكارثة على سكان كييف، حيث بثت محطات التلفزة الأوروبية مناظر لما جرى خلال الحرب العالمية الثانية من دمار للمباني، والجثث الملقاة في الشوارع، وقادتني الصدفة للدخول في مناظرة مع الإعلامي الذي بث المعلومات عبر شبكة «سي إن إن» ضمن حوار حول «أثر الإعلام على الأمن الاجتماعي» مع ممثل من شبكة الإعلام الألماني جرى تنظيمه في برنامج مؤتمر الطوارئ في العام 1998 في دبي، وكان يدير حلقة الحوار العقيد السابق في الدفاع المدني في دبي علي السيد، وقلت موجهاً حديثي إلى ممثل شبكة «سي إن إن» أنت تؤكد أنه لا يمكن أن يسهم الإعلام في التأثير السلبي في واقع الأمن الاجتماعي، وأشرت إلى التقرير الذي أشرف على إعداده وما يحتويه من معلومات مغلوطة وكاذبة والذي بثته شبكة «سي إن إن»، وبينت ما تركه التقرير من أضرار على واقع أمن أسر الطلبة، ورد قائلاً كنت مضطراً لأنني لم أتمكن من الحصول على معلومات عن الحادث ترضي إدارة المحطة. ترك ذلك التقرير آثاراً سلبية في نفسيات أهالي الطلبة، ما دفعهم إلى إرسال البرقيات المتشائمة، ولفتت نظري برقية وصلت إلى صديقي سعيد من المغرب كتب فيها «إذا كنت حياً فأبلغنا فوراً». كانت عائلته تستعد لإقامة العزاء، ودفع ذلك سفارات عدة لاتخاذ إجراءات سريعة، بيد أن ذلك لم يؤدِ النتيجة المطلوبة، حيث أدت وفاة أحد طلبة المغرب إلى إثارة زوبعة كبيرة، واستثمرها الإعلام الخارجي أشد استثمار، فعند مرور جثته في مطار باريس نشرت الصحف مقالات مثيرة أثرت في نفوس الأهالي. والحقيقة أن كارثة تشرنوبل لم تكن السبب المباشر في وفاته، وهذا ما أكده أخوه الذي كان موجوداً والطبيبة المشرفة على علاجه التي أكدت أنه مريض بـ «الأنيميا المنجلية»، ورفض العلاج واختفى في إحدى الشقق، وكنا نبحث عنه لإبعاده عن المدينة، وعندما ساءت صحته اتصلوا بنا وتوجهنا على الفور بسيارة إسعاف، بيد أن الوقت كان متأخراً. للتواصل مع الكاتب [email protected]