الجمعة - 26 أبريل 2024
الجمعة - 26 أبريل 2024

الموت مع الجماعة (2)

«تساؤلات في التجربة الفردية للأديب والتأثير على العامة في الأدب الحديث» إن في نشأة ثم تعاقب المدارس الأدبية المختلفة في أوروبا الكثير من الأدلة والحقائق التي تجيب عن تساؤلات مهمة في ما يخص التجربة الشخصية في الأدب وتأثيرها أو تأثرها بالمجتمع والظروف المعاصرة لها على الصعيد السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو العقائدي وغيرها. ألجأ للمدرسة الوجودية هنا كمثال وإن تشابهت مع كثير من المدارس الأدبية الأخرى، كالعبثية والعدمية والانطباعية والسريالية والحداثية والرمزية في الاستنتاجات التي يمكن للباحث التوصل إليها عن طريقها، حيث جاء مذهب الوجودية الفلسفي مؤثراً في الأدب الغربي إثر القلق الذي ساد أوروبا بعد تشرد الملايين وانتشار الدمار والخراب بعد الحربين العالميتين صادقاً يحمل هموم وأفكار الكثير آنذاك وينطق بلسان الواقع، فأقبل عليه القراء واستحوذ على اهتمامهم، فكان له التأثير الواسع الذي طال به الأدب العربي. لقد تبنى كتاب عرب مذهب الوجودية في أدبهم مثل الكتاب السوريين في الفترة ما بعد الخمسينات، وذلك لتأثرهم بالغرب، لكن كيف لهم بنبذ العلم وتبني العبثية في فترة كان الإنسان العربي أحوج ما يكون إلى العمل والبناء، وهي مفاهيم لا تتناسب والوجودية؟ كيف للأديب أن ينادي لمذهب أو يمزجه في أدبه حينما يكون هذا المذهب مستلفاً من حضارة مختلفة وليس نابعاً من تجربة شخصية أو مجتمعية؟ مثال على ذلك زكريا تامر في مجموعته القصصية «صهيل الجواد الأبيض» حين يتسم أبطاله باللامبالاة والانعزال التام عن المجتمع والمشاعر التي تسوقها لنا الحياة عدا العبثية التامة كما جاء في قصة «ابتسم يا وجهها المتعب»، إذ يقول على لسان إحدى شخصياته «أعمل ليومك فقط، وعش كما تشتهي»، وهي نظرة مختلفة ومخالفة لواقعنا العربي، ولما يعيشه الفرد العربي وما يعتقده! إذاً، فالمدرسة الوجودية نشأت بتأثير من الظروف التي كان المجتمع الأوروبي يمر بها، وهي كغيرها من المدارس الأدبية كالمرآة ينعكس وجه المجتمع فيها وتولد كنتيجة لاتجاه فرضته معطيات ذلك العصر، إذ نلاحظ أن المدرسة الحداثية بنيت على عقائد سبقتها ووجدت قبولاً وانتشاراً كبيراً كالماركسية والفرويدية والدارونية، وكذلك المدرسة السريالية التي كانت نتاج اليأس والكبت الذي آل إليه إنسان أوروبا بعد الحرب العالمية الأولى، إذ بعد كل تلك الأرواح التي قضت وكل ذلك الدمار والفوضى نشأت لدى المجتمع، متمثلاً بالأديب، رغبة في التحرر من القيم والغرائز واللجوء بالأحلام والخيالات إلى عالم مختلف. لاشك في أن الثورة الفرنسية 1798 من نتائج، وفي الوقت ذاته، من بواعث المدرسة الرومانسية في الأدب الأوروبي، فجاءت ثورتها على الكنيسة والواقع الفرنسي وليدة الأدب والفكر الرومانسي، كما أننا نلاحظ أيضاً أن للمجتمعات قوة تبقي بها على مدارس أدبية وتنهي أخرى، كالمدرسة البرناسية (مدرسة الفن للفن) والتي بُعيد انتشارها لاقت النقد والهجوم من قبل الكثير، ومنهم ت. س. إليوت الذي اتهمها بقصر النظر وخلوها من الهدف الاجتماعي والغاية التي لابد منها لكل أديب، وكان أن تقوقعت هذه المدرسة وتلاشت تدريجياً. إن الأديب جزء من دائرة يقتسمها معه المجتمع بكل قيمه ومعاييره وأفكاره وأحاسيسه وطبائعه وعقائده، يشترك معهما فيها العصر بكل معطياتهما من مؤثرات سياسية واقتصادية وجغرافية وبُعد تاريخي ومخزون حضاري وأفق ثقافي وغيرها، يتأثر الأديب بكلها ويؤثر حتى ليحتار الباحث في أبعاد الأثر والمؤثر! قد يكون من الصعب على الفرد استيعاب أو تقاسم هموم الآخرين، لكن الأديب يحتوي المجتمع كله بين صفحاته، وإن تقوقع في تجارب فردية بحتة فلا شك عندئذ في أن المجتمع يشاركه هذه الفردية والانعزال والغربة في عصر شبكات التواصل الاجتماعية، لكنني كفرد من هذا المجتمع العربي، أتمنى أن أشهد اليوم الذي تنشأ فيه مدارس أدبية تتلفع بروح هذا المجتمع وتروي بلسانه مذهباً خاصاً متفرداً تحاكيه المجتمعات الأخرى بعدما كان الحال دائماً بالعكس، وإن كانت دائرة الأديب لغة عالمية في عصر أصبح العالم فيه قرية صغيرة، لكن لاتزال حوادث كعمليات الانتحار الجماعي تزهر عند الأديب والباحث ألف سؤال وسؤال. للتواصل مع الكاتب [email protected]