الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

كاميرا الضمير

في نفس كل منا قوة خفية لا تُشاهد بالعين المجردة، ولا تُرى بالمجهر، ولا تُعرف بالتشريح، هذه القوة الخفية تهديك إلى واجبك، تدفعك إلى الخير، تبعدك عن الشر، كأنها الأب يحذر ابنه، وكأنها الأستاذ ينصح تلميذه، فإذا خالفت ما تأمرك به هذه القوة الخفية، أو اقترفت ما حذرتك منه كانت محكمة تحكم لك أو عليك، وتقضي لك أو عليك، إما أن تقضي لك بالراحة والطمأنينة والسرور، وإما أن تحكم عليك بالألم والقلق والعذاب. هذه القوة الخفية الكاشفه الهادية، الآمرة الناهية، المحذرة المحرضة، الحاكمة المنفذة، سمّاها علماء النفس الضمير، وسمّاها بعضهم وجداناً، وسمّاها القرآن قلباً تارة، وفطرة تارة أخرى، لا إشكال في اختلاف الأسماء، فالمُسمى واحد. هذا الضمير، وذاك الوجدان، هذا القلب وتلك الفطرة هي عماد الأخلاق، إنها تحاسب الإنسان بشكل مستمر، تحاسبه قبل العمل بالإرشاد والتحذير، وتحاسبه أثناء العمل بالتشجيع والردع، وتحاسبه بعد العمل بالارتياح أو الوخز، إما أن ترتاح لعملك، وإما أن تقلق له. كل هذه الأمور كانت متوهجة وثائرة في نفسي، وأنا أشاهد مباراة لكرة القدم، رضوخاً لطلب ابني الصغير عبدالقوي الذي أصبح معجوناً بحب الكرة، وما أن تبدأ مباراة محلية أو عالمية إلا ويتسمر أمام الشاشة، مصوّباً عينيه أمام محيط الماكرة المستديرة. والحقيقة أنه يحدث في مباراة الكرة أن يكون هناك ملعب وحكم وصافرة ومراقب للخطوط يحمل الراية ويتابع بدقة ما قد يغفل عنه الحكم، أو ما لا يلاحظه أثناء سير المباراة، وهذا ما أراه منطبقاً على حياتنا الإنسانية، فنحن في ملعب ضخم نعيش على أرضه، كل منا يحاول إصابة المرمى، وهناك حكم هو الزمن الذي يطلق صافرته في وقت محدد بانتهاء المباراة، وهناك أيضاً مراقب الخطوط الذي يحمل رايته، ويتوقف عليه الكثير من طبيعة اللعب وحدوده، وهو المعروف باسم «الضمير»، وكلما كان هذا الضمير مستيقظاً للعب واللاعبين قلّت الأخطاء، أو على الأقل يشعر اللاعب بأنه في مأمن من اعتداءات الآخرين أو أن فرصته المتاحة للوصول إلى المرمى مقرونة فقط بكفاءته وقدراته وخبراته، وليس بالخشونة المتعمدة أو بالتسلل خلف خطوط اللاعبين أو دفع الكرة باليد لا بالقدم. وفي ملعب الحياة كما في ملعب كرة القدم فإن اللاعب قد يلعب في مواقع عدة، أو يتسلل من خلف الستار ليصل على أكتاف الآخرين خادعاً رؤساءه، أو من يأمل فيهم خيراً، أو من له عندهم مصلحة، ولكنه يعترف في لحظة معينة أن هناك موقعاً بالذات هو أفضل مواقعه والذي يستطيع فيه تقديم أدواره، وأي منا قد يتغاضى عن الحكم الواقف بصافرته (الزمن)، ولكن من المؤكد أنه يشعر بأهمية مراقب الخط الذي يحميه ويوجهه، كلما شعر بضعف إنساني حتى لا ينزلق إلى الهاوية ألا وهو الضمير. وملعب الحياة يذكرني بملعب العمل، إذ كل منا يسعى لإصابة المرمى بتقديم كل ما يملك من إمكانات، وما وهبه الله، سبحانه وتعالى، من فطنة وذكاء، وهناك بالطبع أسس وضوابط تضعها أي مؤسسة، أو دائرة لتحكم سير العمل، إذاً ما عليك عزيزي الموظف إلا أن تختار موقعك بين العمل والكسل، ففي كتيبة العمل تولَّ أمر نفسك، روّض نفسك على الجد والاجتهاد، ودرّب روحك على إتقان العمل، ولتضع قول الله سبحانه وتعالى {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون} نصب عينيك. عزيزي الموظف، اجعل كاميرا ضميرك هي الرقيب عليك، هي المرآة المكبرة لدواخلك، هي الأداء الحقيقي الذي يتوغل في عقلك وعواطفك، أما إذا اخترت موقع الكسل والتواكل، أو الفوضوية المؤدية إلى السأم، أو جعلت المبالاة تتجاسر على كاميرا ضميرك وأحاسيسك ومشاعرك تجاه العمل، أو أهملت كل القواعد والنظم، أو أظهرت الضيق والكدر فسيستفحل الداء، وستتوقف عجلة العمل والإنتاج. عزيزي الموظف، نحن بحاجة إلى موظف يشعر برقابة ذاتية، إلى موظف يكون ضميره اليقظ رقيباً بين جوانحه، إلى موظف يتمثل قول الله عز وجل {إن الله كان عليكم رقيباً}، نحن بحاجة إلى موظف ينمو فيه الوازع لا الرادع، الوازع الداخلي لا الرادع الخارجي، وشتان بين الوازع الذي أساسه الخوف من الله، والرادع الخارجي الذي أساسه الضبط المادي، وقد يكون المردوع أذكى من الرادع فينفلت من رقابته ومن عقابه، وبهذا يفسد الضمير، ولكن قد يسأل سائل ما الذي يُغذي هذا الضمير؟ من الثابت قطعاً أن الإيمان أعظم مدد له، وأقوى مولد له، يغذيه أيضاً اعتقاد المؤمن أن الله معه حيثما يكون، إن الضمير هو مستودع السرّ الذي يكتمه القلب، والخاطر الذي يسكن النفس فيضيء ظلمتها وينير جوانحها، إن الضمير كالطفل فما دمت تغذيه بالغذاء الصالح ينمو ويقوى، أما إذا أهملته فإنه يضمر ويضعف، وضموره دمار لصاحبه في الدنيا والآخرة. عزيزي الموظف، اجعل مراقبتك لمن لا تغيب عن نظره إليك لحظة، واختر لنفسك موقعاً تؤدي فيه عملك بكل أريحية لتكون زهرة أكثر انفتاحاً.