الجمعة - 19 أبريل 2024
الجمعة - 19 أبريل 2024

«ترميم الذاكرة» .. ردم الجرح

سيرة الأمكنة في سيرة إنسان .. يكون هذا أول ما يلامسك ما أن تبدأ مع سيرة الدكتور حسن مدن في كتاب سيرته «ترميم الذاكرة» .. الأمكنة التي ﻻ تموت .. لكنها ﻻ تبقى على حالها أيضاً، وكأنها هنا تتقاطع مع أبرز سمات الكائن الحي في عبور الوقت عليها «الزمن» بتحوﻻته كافة، وما أو من يعبر من خلاله اجتماعياً وسياسياً. هل يصبح المكان إنساناً بديلاً، حيث تستشف أن في ترميم الذاكرة ﻻ مكان يشبه آخر، ﻻ مدينة تحمل الجينات ذاتها لمدينة أخرى محاذية أو بعيدة، لترى أن المدن أرواح كبيرة، محكومة بالأبدية التي تقيدها، تستمد من إنسانها المقيم تلك الذاكرة الممتدة التي يقذفها فيها زمناً بعد آخر، تجوب معه الأحداث .. تخوض الحروب، تخسر، تكسب وتتعب. تحب وتتمازج لكنها لا تملك قطعاً تلك المقدرة البشرية على الكراهية، ما يجعل العلاقة مع المدن أكثر رهافة، أقرب إلى الكمال لولا محتمات الغياب والسفر. الأماكن هنا أيضاً، ترتبط بهويات وصفات محددة تسترجعها بعد حين، تماماً كتلك التي تكون خاصة بالأصدقاء الجدد الذين يتحولون بمرور الوقت إلى أصدقاء قدامى تستذكر فيه ومن خلاله ملمحاً مهماً، فهذا المكان مرتبط بالثقافة وأنشطتها كصديق متطلع، وذلك الساحل الممتد يبدو كصديق كتوم يتلقى الأسرار فيحفظها ويخفف عنك وهكذا تباعاً. هنا تلك الذاكرة الجائلة على مر ما يزيد على العشرين عاماً خارج البحرين بين القاهرة وبيروت ودمشق وموسكو ودبي وأخيراً الشارقة .. الذاكرة التي لم تترك فقداً إﻻ وجربته. الفقد الذي يجعل قراءة عمل كهذا مربكة ومُرّة في آن، لكنها نوعاً ما ساعدتني على استنباط فهم جيد لعلاقة المنفي بالوطن. أين هو منه، الفرق بين الإبعاد القسري والبعد الاختياري الخط الرفيع الفاصل بينهما، الذي يخلق كائنين مختلفين كلياً في درجة اﻻرتباط بالوطن مسقط الرأس، ومن منطلق الفقد ذاته فإن إحدى أشد فقرات الكتاب إيلاماً هي التي يصور فيها الكاتب ذلك الفقدان الكبير لشخصيات كوالده ووالدته وإخوته والأصدقاء .. واجترار ذلك الأسى الدائم نتيجة غياب حقه المشروع في الحصول على وداع يليق من الطرفين على اللمحة الأخيرة. الصورة أو حتى الرائحة قبل الذهاب الكبير، قبل ذلك الموت المباغت أو المتوقع، ولكنه في ظل إرهاصات المنفى يأتي دائماً بوقع المفاجأة التي تُسقط ما قبلها من توقعات وتمهيدات، وهو الأمر الذي يجعل شكل الوطن أو سيرته ممسوسة بشكل كبير من الفقدان، فقدان خفي تتشبع به الطرقات والأمكنة يورث شعوراً شفيفاً بالحنين الدائم حتى بعد انقضاء وقت الغربة، حنين للمرحلة التي سبقت الغياب وللمراحل التي لا تعود ولا تحمل النكهة ذاتها ما لم تكن على أرض الوطن. وراء كل مكسب هنا تضحية، وخلف كل إيمان ومبدأ هناك تضحيات ستقدم كي ﻻ تخسر ذاتك التي ﻻ يشكلها إﻻ أنت في المقام الأول، من خلال ترميم الذاكرة ستختبر بعض تلك التضحيات، ستفهم المشهد الذي يقبع وراء بعض الصور لتدرك أن ﻻ حقيقة تأتي إﻻ بعد تعب وذهاب بعيد ومؤلم خلف هواجسك وأفكارك ورغباتك التي قد تخرج من ذاتك المفردة إلى الكيان الجمعي الذي ترغب في عالم أكمل وأفضل له ولأجياله المقبلة. كتاب ترميم الذاكرة سيرة ذهبت لتصهر المكان بالإنسان وبالمراحل التاريخية كذلك أكثر مما شغفت باعتيادية علاقة الإنسان بالإنسان، وهذا لا يعني أنها همشتها فهو النواة والمبتدأ الذي تنطلق من الحكايات وإلا لما كان هذا العمل سرداً ذاتياً، هو عمل سيجعلك تحزن لما ستدركه وتستشفه من خلاله، لن تبتسم إﻻ نادراً وأنت تقرأه، لكنك في ختامه ستكون منتشياً بتلك الذاكرة المرممة التي ردمت بعض جراحها من خلال مشاركتك لها في ذلك التطواف الواقع داخل 118 صفحة والذي انتهى بفتح باب التساؤل حول ماهية رتق شقوق الذاكرة بتقاسم آلمها مع الآخرين وهو النسيان الذي لا ينتهي للفراغ بقدر ما يعني التخفيف من ثقل هذه الذاكره بتناقلها وتفتيتها من ذات واحدة لإعادة تشكيلها على ذوات وأماكن. [email protected]