الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

الصوم .. مثقال الإيثار بالإبصار

ولنور الرحمة الإلهية تحكيم وحكمة، ليست استنباطية فهي منبلجة كمشكاة ونور على نور. والمضمون في خلق هذا الكون وجميع مخلوقاته، تأمل الإنسان في جماليات صيرورته وإبداعات بديع السموات والأرض، فهي تعبد طريق الهداية الفطرية بذاتها ومكنوناتها. ووفق محدودية العقل الإنساني ولرحمته سبحانه بنا، أرسل الرسل عليهم السلام، وجعل ابن آدم حر في الاختيار بين طريقي الهداية والضلال، كما ورد في محكم تنزيله تعالى : «وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا...» الكهف/ آية ( 29). ومن رحمته تعالى، أن جعل الإيمان به توفيقا منه، حتى لايوصف بالظلم يوم القيامة، إذا قلنا إن الإنسان مجبر على أفعال، كما ذهبت فرقة الجبرية. ويتعين علينا أن ندرك أن قضية الإيمان بالله تعالى ترتبط بقضايا التعايش والإخاء والتراحم، أي في مجملها رحمة من عنده على عباده. ومن رحمته أن حرم علينا الجزئيات ولم يحرم علينا الكليات، فلم يحرم الشرب، بل حرم شرب الخمر، ولم يحرم الأكل، فحرم أكل الربا، وأكل الميتة، لحم الخنزير، وما أهل به لغير الله، وفرض علينا عبادات من «صلاة،زكاة، صوم، وحج» ضمن قاعدة النية الخالصة له جلت قدرته، في النظافة «الطهارة» ،اليسر، وضبط الوقت، مرتكزاً على العقل والاستطاعة. وجد الصوم عند العديد من المجتمعات الإنسانية، الأديان السماوية الثلاثة فضلاً عن المعتقدات الوضعية، تمحورت مضامينه وأهدافه في اعتباره وسيلة للارتقاء، أو كوسيلة لكبح البؤس الضعف، أو تعبير عن الحزن والتقشف أو انقطاع عن الشهوات، أو كوسيلة للعلاج. ففي المعتقد الوضعي البوذي لمؤسسه سدهارتا جوتاما، الملقب ببوذا أي العالم 560 ق.م 480 ق.م والموجودة في الهند، التبت، سريلانكا، الصين، منغوليا، كوريا، اليابان، تايلاند، كمبوديا، بورما ،لاوس»، كان الصوم عند بوذا وسيلة لبلوع درجة من التجرد والإرتقاء يطلق عليها «النيرفانا»، تحت عناوين: «لن أكل، ولن أشرب، ولن اتحرك حتى أبلغ مرامي». وعند الفراعنة، فهو أكثر الطرق جدوى وبساطة لكبح البؤس، الغضب، والضعف. وفي الديانة اليهودية، كما ورد في عهد اللاويين «6» «16/29»، فالصوم هو الإمساك عن الأكل والشرب ليوم واحد، وأربعة تذكاراً للمصائب التي حلت بهم كما يعتقدون، أي حزناً «يوم بدأ حصار البابليين لأورشليم ، الاستيلاء على القدس من قبل البابليين ،احتراق الهيكل في أورشليم على يد البابليين، تخليداً لذكرى وفاة أنبيائهم وعظمائهم، إذ يمارسون في أيام الصوم التقشف، كالنوم على الأرض أو الامتناع عن الاستحمام، والتعطر. والصوم في الديانة المسيحية، يعبر عن فترة انقطاع عن الشهوات الجسدية «الطعام» ، والشهوات الروحية «الأعمال السيئة، وينقسم إلى قسمين «الصوم الكبير»، تبلغ مدته 55 يوماً ، ودعي بالكبير لأنه يحتوي على ثلاث أنواع» أسبوع الاستعداد، الأربعين يوماً المقدسة التي صامها السيد المسيح صوماً انقطاعياً، أسبوع الألام»، و«الصوم الأصغر» «صوم الميلاد»، يتمنهج على التقشف والتذلل أمام الله. أما في الإسلام فإن الصوم، واحد من أركان الإسلام الخمسة: «شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وإقامة الصلاة، وصوم رمضان، وحج البيت، وقد ارتبط بالإستطاعة، فهو الركن الرابع، ويعني الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، أي الامتناع عن شهوتي البطن والفرج. وشهر رمضان الذي انزل فيه القرآن كما جاء في قوله تعالى: «شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولايريد بكم العسر...» البقرة 185. وتمثلت الرحمة الإلهية في العديد من المناحي، في أنه شهر من مجموع اثنتي عشر، وجرء من اليوم. وفي ليلة القدر التى وصفها الله تعالى بأنها أفضل من ألف شهر، أي أن العمل فيها والاجتهاد في الأعمال الصالحة خير من ألف شهر مما سواها، كما ورد في قوله تعالى: «ليلة القدر خير من ألف شهر» القدر/ آية ( 3 )، الرخصة للمريض أو المسافر حتى يستقر الثاني ويشفى الأول، تم فيه التفرقة بين الحق والباطل «وبينات من الهدى والفرقان» نزلت فيه الكتب الإلهية «صحف إبراهيم، الزبور ،التوراة، الإنجيل، والقرآن» يتقرب الإنسان فيه بالطاعات «ذكر الله، تلاوة القرآن، تصدق على الفقراء، إكرام الضيف، والدعوة إلى مكارم الأخلاق. ولنا هنا أن نستحضر فوائد الصوم الكثيرة، ومنها، أنه يبعد النفس عن الهوى إلى التفاني في الطاعات، تهذيب النفس وتطهيرها من الرذائل «الحقد، الكراهية، الحسد، والغرور» فتتوحد فيه القلوب والنفوس مما يؤدي إلى إصلاح بنية المجتمع عن طريق الدعوة إلى قيم الإخاء «الصبر، الإيثار، التضامن، والإصطلاح الاجتماعي، فأي مثقال أبلغ وأعدل من ذلك في إشاعة العدل والتكافل.