الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

«التخلف» الجميل

وأنا أستمع هذا الصباح إلى صوت الفنانة التونسية الراحلة «علية» في قصيدتها الخالدة «أنا من أنا» التي كتب كلماتها شاعر لبناني، ووضع ألحانها ملحن مغربي، ذكرتني صورها الشعرية الجميلة واللحن البديع والأداء الرائع بحادثة طريفة عن التطور المريع الذي عرفته أذواق الناس الفنية في هذه الأيام. في ذروة الأسبوع الأخير من مهرجان دبي للتسوق الأخير كنت مع ضيوف وأصدقاء لي من خارج الدولة نزور بعض المراكز التجارية التي استغلت قرب انتهاء المهرجان، وأعلنت عن تخفيضات كبيرة في أسعار منتجاتها. وكانت اليافطات الكبيرة الملصقة على واجهات كل المحال التجارية متشابهة من حيث المضمون، وتختلف فقط في الشكل واللون، ولسان حالها يقول للزبون المفترض: هيت لك. دخلنا محلاً لبيع الأشرطة والأقراص المدمجة للأغاني والفيديوهات، وكانت الأسعار فعلاً مغرية بحيث أن المحل كان غاصاً بالناس، وكل واحد يرمي في سلة مشترياته كل ما استطاع الوصول إليه قبل الآخرين حتى ضيوفي حذوا حذو الجميع، وملأوا سلالهم بأشرطة، وسيديات لمطربين عرب من مختلف المذاهب الغنائية. ولأني لست على المذهب نفسه والملة الفنية، فإني آثرت الانزواء جانباً، وانتظار أن ينتهي ضيوفي من جمع غنائمهم التسويقية. ولاحت مني التفاتة إلى عناوين بعض الأشرطة الغنائية المعروضة، فكانت كلها من الرعيل المشهود نفسه له بالزعيق والصراخ من المذهب الغنائي نفسه، ولما رأى صديقي أني لا أمد يدي إلى هذه البدع الفنية، فاستغرب وسألني عن السبب، بل واقترح أن يهديني بعض هذه الأشرطة، لكني شكرته وأخبرته مازحاً بأنه لو أتى لي بإحدى هذه المطربات بنفسها صوتاً بطبيعة الحال، فإن غناءها لن يحرك ساكناً في داخلي، لأني أنتمي لفصيل في طريقه إلى الانقراض، لا تهزه إلا النغمة الأصيلة، ولا ينتشي إلا بالطرب الأصيل. بالفعل هناك مجموعة من الناس، أعتقد أنني منهم، لا تستطيع سماع، أو قراءة، أو مشاهدة أي عمل فني كيفما كان، بل منهم من يتعذب عندما تضطره الظروف إلى سماع أغنية من أغاني هذا الزمان الرديء، وهذا الأمر سلبي جداً من ناحية، لأنه يقطع بصفة نهائية بين هذه الفئة، والمحيط الفني الجديد الذي يملأ الدنيا حالياً. أنا أخجل أحياناً عندما لا أستطيع معرفة بعض مطربي هذه الأيام لكثرتهم وتشابه أغانيهم، ولا أستطيع بالتالي مجاراة، أو مناقشة شباب عن أغاني ومطربي الموجات الشبابية الحديثة. ومن ناحية أخرى، فإن الأمر إيجابي كذلك، لأن مرجعية التقييم الفني للأغاني والأعمال الفنية التي نتعامل بها لا تأخذ بعين الاعتبار المظاهر البراقة من ملابس وإكسسوارات وأشياء براقة لا يستطيع مطربو اليوم الاستغناء عنها في الغناء، لأنها تشكل أكثر من 70 في المئة من موهبتهم. العديد من هؤلاء المطربين لا يستطيعون أداء أغانيهم دون تجهيزات صوتية مكلفة جداً، لأن أصواتهم ليست بالقوة والحلاوة التي يمكن أن تطرب دون تدخل تقني من مهندس الصوت، فالتقنية الحديثة جعلت من الصوت الرديء صوتاً له عشاقه ومحبوه، والشيء نفسه بالنسبة للفوتوشوب الذي جعل الذميم مليحاً والعكس. لذلك عندما أخبرت صديقي بأني لا أقدر على سماع هذا النوع من الغناء، ضحك وقال لي مازحاً بأني «سكة قديمة ومتخلفة» أجبته بأنه إلى الآن، ورغم مرور سنوات عديدة على وفاة سيدة الطرب العربي أم كلثوم مازالت أغانيها تتربع على عرش مبيعات الأغاني في العالم العربي، وبأن قصيدة «الأطلال» لم تزل إلى الآن في الصدارة، ولم تستطع أي بدعة غنائية شبابية الإطاحة بها. هل سمعتم مرة أغنية حديثة فيها مثل هذه الدرر: وانتبهنا بعدما زال الرحيق .. وأفقنا ليتنا لا نفيق يقظة طاحت بأحلام الكرى .. وتولى الليل والليل صديق وإذا النور نذير طالع .. وإذا الفجر مطل كالحريق وإذا الدنيا كما نعرفها .. وإذا الأحباب كل في طريق إذا كان هذا التصوير الشعري الرائع واللحن الجميل والأداء البارع تخلفاً، فما أحلاه وما أجمله من تخلف. عزيز رزنارة