السبت - 20 أبريل 2024
السبت - 20 أبريل 2024

أي كلام

ذكر الراحل أحمد بهاء الدين في كتابه «محاوراتي مع السادات»، أن بعض محاضر اجتماعات إحدى القمم العربية وقعت مصادفة بين يديه، فالتقطها في نهم ليطلع بنفسه على تلك القرارات العليا ويعرف ما يدار بالضبط في تلك الجلسات المغلقة، وهنا فوجئ كما يصف بمدى سطحية وضحالة ما يقال فيها. لقد كان الكلام الذي احتوته تلك المحاضر أسخف بمراحل من ذلك الكلام الهامشي الذي كان يثرثر به أحمد مع زملاء المهنة في «الأهرام» وهم يرتشفون قهوة الصباح. لماذا خطرت في بالي هذه القصة الآن؟ هناك لمسات صغيرة في حجمها كبيرة في مدلولاتها تحاصر المرء هذه الأيام، ثمة من يستشعر أنه يقدم لنا خدمات فكرية عظمى ويستعرض أمامنا نظرته البانورامية تجاه العالم تتجاوز ما في جعبتنا من فهم، مؤكداً أن الناس لا تفهم الأدب ولا تهتم بالشعر ولا تعنيها الفلسفة ولا تقبل على العلم ولا تستوعب ألاعيب السياسيين وتعاني ضبابية الأفق الاقتصادي، ولذا فقد تطوع بملء ما في حنجرته من حذلقة كي يهدي هذه الجماهير الضالة إلى صوابها، فتقبل عليه شريحة واسعة من هذه الجماهير تثق به أول الأمر، ثم يفتح الله عليها فما تلبث أن تتحسس عقل هذا المفكر والمحلل عن قرب لترى مستوى الهباب والتفاهة فيما يقوله، مجرد فقاعة تنفجر وتبلل أرنبة أنفك لثوان بعد أن تتفحصه وترى كيف يلعب بعقله شيطان التهريج. تأتي الحوادث متتابعة كالسيل فتملأ المشهد، كل الأمور تغري بالكلام وغالبا أنت لن تفوت لحظة الاستمتاع بالنقاش فيها مع أصحابك، لكن تبقى مدفوعاً غريزياً كي تبحث في صدق وحرارة عن أصحاب الآراء عندما ينشط لديك عنصر الحرص على عدم تفويت رؤية هؤلاء السادة الكبار الذين يحبون جداً لعبة الغموض والخطورة و(هناك أياد خفية لا ترونها في الموضوع، نحن نراها بمنتهى الوضوح) ونحن نقوم بأشياء خطيرة جداً. نحن مهمون، هذا الجو المهيب الذي تهنئ نفسك مراراً بأنك موجود فيه، ثم تخلص في النهاية إلى نتيجة مُرضية مفادها عمق وتماسك ما كنت تهذر به في المقهى مع أصحابك، كالعادة هناك خلل في وزن الأشخاص في الذهنية الشعبية. إن مشكلة بعض هؤلاء الخبراء والمحللين والمفكرين- وأشدد على كلمة بعض - هي أن مهمتهم تتحول مع الوقت إلى العناية بأمور شخصيتهم في أنظار الناس ولفت الانتباه لمجرد حاجة نفسية، جو الغموض الذي يحيطون به فهمهم للأمور يعطيهم شعوراً لذيذاً بالقوة والسيطرة، إنما لأسباب تتعلق بالشيب الذي يغطي رؤوسهم لن تطلب منهم أن يدخروا جهدهم، لكن المهم هو أنك عرفت الحقيقة المروعة، لا أحد منهم يعرف شيئاً على الإطلاق. نحن محاطون بالذين يتظاهرون بالحكمة والأهمية والعلم، بينما تكمن عبقريتهم الحقيقية في التملص من مواجهة الأسئلة المحرجة التي تلقيها عليهم عن طريق اكتفائهم بالصمت المريب المهيب.