الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

التكريم والاستحقاق (2-2)

لقد تمكن آينشتاين أخيراً من انتزاع نوبل، وحاز نصيبه من الحفاوة والتمجيد لعقله ومآثره الفيزيائية، لا يهم إن كان حياً أو ميتاً، ولا يهم الإبطاء بالتكريم لكنه حدث، لأن تجاهل الرموز لغة لا تتقنها المجتمعات المتحضرة حتى وإن وُجد المبرر الذي يسخّف من عملية تكريم الرمز بينما هو ميت، فتغيبه القسري عن المشهد لا يعني تغييب إرثه المعرفي معه، وكلما حدثت استعادة لإنتاجه وتأكدت تلك الاقتراحات بمرور السنوات وترسخت أكثر بعد رحيل صاحبها، كلما كان حجم التقدير أكبر بتناسبه الطردي مع حجم التأثير وطول مدته. والحق أن وعي الثقافة الغربية بأهمية الذاكرة التاريخية، واعتبارها إحدى مسلمات الثقافة بل والوطنية، كذلك يناظره إهمال جسيم للذاكرة التاريخية في الثقافة العربية على جميع المستويات، إلى الحد الذى يمكن أن نسميها معه بثقافة فقدان الذاكرة وتجاهل الرمز العلمي والثقافي والفني. ولا يعني هذا تعمد التجني القاسي على الذاكرة العربية التي اعتادت بالفعل صرف النظر عن الكثير من المخترعين والعلماء والمثقفين من أبناء طينتها، لأنها في الواقع لم تمارس هذا التغييب والنسيان بشكل كلي، لكن اللامبالاة الجزئية أو المبالاة الانتقائية بحسب آيدولوجيا مسيطرة على ذهنيات الناس هي شقيقة النسيان، وعملية إرهاف الذاكرة التاريخية لمن يثبت نفسه تحفز أفراد المجتمعات على بذل ما بوسعهم، لأن من يسترجع أثر الأموات طوال الوقت ويجسدهم من خلال أعمالهم فلن يهمل بالتأكيد أتعاب الأحياء طالما عادة التخليد مترسخة فيه، ولن يتم طمر جهدهم بشكل نهائي. ولذا تحرص المجتمعات التي أخذت بأسباب التقدير للعلم والأدب والفن على أن يتحول تأبين الميت الذي كان له أثر غير اعتيادي أثناء حياته على البشرية أو مجتمعه الصغير إلى ما يشبه الوثيقة التاريخية مع تأمل وتمحيص لإنجازاته، فالقامات لا تنتهي بانتهاء حياتها، هذه هي القاعدة. والواقع أن الاهتمام بتقييم أعمال أي أكاديمي أو مثقف أو فنان مرموق في الغرب والاحتفاء بإنجازاته قد تحول لديهم إلى عادة ثابتة يؤكدها ما يعرف بالكتاب الاحتفالي Festschrift الذي يتولى تدوينه والإشراف عليه عدد من تلاميذه وأصدقائه وبعض المقربين منه ومن تأثروا به كنوع من التكريم حينما يتقاعد، وهناك بالمثل الكتاب التذكاري Gedenkschrift الذي يقوم بالدور ذاته، لكنه يحوي كماً أكبر من التقييم وتحليل أعماله وبعض الآراء حولها، ويصدر عادة بعد وفاته. وهم بذلك يقدمون للعالم درسين مهمين، الأول هو التمحيص والتدقيق الصارم في النتاج الذي أمامهم، إذ ليس كل محاولة -وخصوصاً العلمية- قابلة للتصديق والتكريم والحفاوة المباشرة، والدرس الآخر هو الوفاء لمن قدم وأثّر وغيّر ولو جزءاً بسيطاً من حياة البشرية نحو الأفضل بأعماله تلك.