الأربعاء - 24 أبريل 2024
الأربعاء - 24 أبريل 2024

رسالة أم إسفاف

الفرق بين الفن الهادف والخاسر هو ما يتركه في نفسك من أثر بعد مشاهدتك له، إن دغدغ عواطفك وتركك في حالة تشبه أحلام اليقظة ورغبة بأن تكون وحدك سرحان وهائماً، لا تعرف في ما تفكر، لكن نشوة غريبة تعتريك وأنت بين يدي نفسك، ترقبُ «لا شيء» وتنتظر حلماً لا تعرفه، تنتابك حالة من السكون الغريبة .. يتراءى لك فيها صورة ضبابية، يلهث إحساسك خلفها ليعرف ما وراء ضبابيتها. أشبهها بحالة التصلب لرؤية لوحة فنية رسمت بالماء أو الزيت كمثيلاتها، لكنها اختلفت عنهم بتكبيلها لك ما إن يقع ناظرك عليها. الفن رسالة وإبداع وسمو روحي أفتقده كثيراً في معمعة الحاضر ولا أجد له طريقاً إلا ما ندر. مللت من الضحك والكوميديا والرومانسية المصطنعة، وكل ما أرادوا تصويره لنا، وأبت نفسي أن تعطيهم فرصة أخرى، فقد تلاعبوا بكوننا بشراً وروجوا لبضاعتهم الخائبة. إن حاورتهم لترشدهم وتقومهم، قالوا لك: نحن رسل الفن الراقي، ومع كل احترامي هو الإسفاف الذي فتح العيون على مارد الغريزة العمياء الشاذة والحب الأفلاطوني والبطل الذي لا يقهر. يتجلى مفهوم الإبداع حين يخلق حالة من الجذب لا تستمر للحظة، بل لعقود وأجيال، كمسرحية شكسبيرية ترجمت لكل اللغات ومثلها أقوام وأقوام، ومازالت حتى اللحظة تحظى بقبولنا وتحرك مشاعرنا وتشد انتباهنا، مع علمنا وكامل درايتنا بنهايتها، لكنك حين تشاهدها تجبرك أن تعيش اللحظة معها، فتنسى نهايتها حتى تصل لها! الهوى في عرفنا أمسى كرواية شرقية بختامها يُزوجُ الأبطال، فحتى عنترة وعبلة زوجوهما في نهاية القصة، ولم يبق لهم إلا أن يصححوا لنا معلومة أن طرفة بن العبد قضى مفتدياً الحبيبة من رصاصة طائشة كادت تصيبها أثناء «الزفة». هوليوود وبوليوود وبالطبع العربية منهما أوصلتنا لمرحلة فقدنا فيها الاستمتاع، فاستبدلته بالترفيه، فنما منا جيل الفكر المفقود فارغ العقل والحديث، لكننا نصفق لتفاهتهم ونسعى لهثاً وراء أخبارهم، في حين هم صغار ونحن من رفع مقامهم! إن أردت أن تستمتع بلحظات فنية شيقة، ابحث عن فيلم أيرلندي سياسي، وحبذا أحد تلك الأفلام التي تتحدث عما قبل اتفاق «الجمعة العظيمة»، واحرص على أن تناله رقابتك، فبخلاف ما في بعضها من انحلال أخلاقي.. (تجاوزه)، وركز في العرض وفي الإخراج وفي تجسيد الشخصية وفي سرد الحدث، والنقد دون «الصواط والزعيق» (التي اعتدنا عليهما في فننا المجيد!).. أروع ما فيها أنها تشبه الأفلام ثلاثية الأبعاد، تجبرك أن تكون المشاهد والشاهد والبطل والعدو، حتى تشعر ببركان من الحرارة يكاد ينفجر في داخلك، رغم كونها «أيرلندية» تتمتع ببرودة قارسة تتنافى مع نشاطنا كعرب إلا أنها والحق يُقال فيها من الحركة ما يحرك مشاعرنا. إن أردتم أن تصل لكم الفكرة فتخيلوا معي طائرة ورقية تلهو بها طفلة في جو ربيعي مشمس معتدل الريح وصحو، تتحرك بأناملها الصغيرة فلا تفقدُ بها السيطرة عليها، وتوجهها دون أن تضطر أن تجري خلفها لتمنع ابتعادها عنها أو فقدانها لها. تمتع ناظرها بها، لا تشعرها بالملل أو التعب، بل تقودها للحظات سعيدة تنهيها بأن تجذب أصابعها الصغيرة الخيط لتقربها منها، ومن ثم تلملمها لتحفظها في مكان آمن، أملاً في نزهة أخرى يتجدد بها اللقاء .. وحتى حينها تبقى ذكراها حاضرة. هل اتضحت لكم الصورة، فنحن الطفلة، والفن الراقي هو الطائرة الورقية!