الجمعة - 26 أبريل 2024
الجمعة - 26 أبريل 2024

جنون العظمة

يعد جنون العظمة وجهاً من أوجه الـ«شيزوفرينيا» أو انفصام الشخصية، وهو أحد الأمراض النفسية التي تحدث عنها الفلاسفة الإغريق منذ القدم، وأفرد لها علماء النفس مؤلفات بالبحث والدراسة، وفيها ينفصل المريض عن واقعه ليبالغ في تقدير ذاته، ووصف إمكاناته، وتفخيم شأنه، ليصل به الأمر إلى رسم سياج افتراضي يتحصن به ويخول من خلاله لنفسه ما لا يحق لغيره. هذا من الجانب السيكولوجي للمرض، أما على الصعيد الاجتماعي، وهو محور حديثنا، فالمريض بجنون العظمة يتمتع بمواصفات خاصة تسبغ عليه شخصية مختلفة تجعله تحت بؤرة الغموض والاستغراب دائماً، ومن أبرز ما يتسم به الديكتاتورية الصرفة في التعامل مع محيطه، لا سيما إذا منح سلطة ونفوذاً، إذ سرعان ما يستثمرهما في بث فكره المعتل إلى من حوله من أفراد، سواء أكانوا موظفين تحت أمرته، أو أسرة ابتليت بقيادته، أو أصحاباً أجبروا على رفقته. ويزخر التاريخ بنماذج من هذا القبيل، من أمثال «نمرود» في العصور الغابرة، وهتلر في العصر الحديث، ورغم اختلاف الأزمنة وتعاقب الأجيال، إلا أن المخدوعين بعظمتهم يتفقون في انفعالاتهم النفسية، ونمط استجابتهم للمتغيرات في بيئاتهم، ويندرجون تحت الشخصية المرضية ذاتها، حيث تنعدم الحدود عندما يتعلق الأمر بجبروت المتسلط، فكلما أوتي صلاحيات أكثر أطلق العنان لروحه السقيمة في استعباد رقاب العباد، وبلوغ مساعيه الخاصة، ودونما وعي منه تجده يخاطب الناس باستعلاء فاحش وغرور مستبد يجعلانه لا ينفك عن مدح قدراته الخارقة ومكانته المرقومة، كما لا يترك فرصة للظهور إلا ويقتنصها، فلا بد أن يكون محط الأنظار حيثما ذهب وأينما حل، ليرسخ في الأذهان بطولته الواهمة ومجده الواهن. ويكون ضحاياه عادة من ذوي البأس والشكيمة ممن لا يرضون بالانهزامية والخنوع، فيتصادمون مع تمرده الجائر، حتى يقعوا فريسة سهلة في فخ الخطأ الذي يتخذه ذريعة لممارسة عنجهيته تجاههم، أما الرابحون من هذه الشخصية المتأرجحة فهم الوصوليون من أصحاب النفوس الضعيفة الذين لا هَمّ لهم سوى الوصول على أكتاف الآخرين، فالغاية عندهم تبرر الوسيلة، تماماً كسيدهم المفتون بالسلطة. وقد يكون لأولئك المهووسين بأنفسهم ماض بائس رمى بظلاله القاتمة على تكوينهم، وأسهم في رسم أبعاد سلوكهم المرضي، فقد يكون الديكتاتوري وليد تربية سيئة أو فقر مدقع أو صحبة ضالة، لكن مهما كانت الأسباب، فإن ذلك لا يعطيه مسوغاً للتمادي في غيه، والتطاول على من أصبح تحت يده. لا أدري إن كان لتلك الفئة من البشر علاج ناجع يخلصهم مما أصابهم من جنون وانفصام عن واقعهم، ولا أعلم إن كان هناك أمل في إزاحة الغشاوة عن بصيرتهم التي أعماها الكِبر والنرجسية، لكن يبقى من واجب المجتمع عدم فتح الباب أمام هؤلاء لاعتلاء المناصب وقيادة الأفراد، لأنهم لن يروا أمامهم إلا أنفسهم، ولن يجني المجتمع منهم إلا الويلات، فهم أبعد ما يكون عن إدارة عجلة التطوير وبناء الحضارات لأنهم يفتقرون إلى حس المشاركة والمصلحة المجتمعية، فهدف واحدهم الأسمى إرضاء «الأنا» الجاثمة على صدره، والتي تتضخم يوماً بعد يوم وشيئاً فشيئاً، حتى تحين اللحظة التي يجد فيها نفسه وحيداً منبوذاً بعد وهج السلطة الخادعة، لكن هيهات آنذاك أن تمد له يد تنتشله من درك فعاله، فلم يزرع خيراً ولم يساند معوزاً، فكيف له أن يعان؟