الثلاثاء - 16 أبريل 2024
الثلاثاء - 16 أبريل 2024

«فوضى حواس» في «البانسيون»

 إن الأقلام المبدعة التي فرضت نفسها بقوة على الساحة الأدبية الإماراتية خلال فترة زمنية قصيرة لا تتجاوز العامين تستحق الدراسة بتأمل ودقة، ولعل الكاتب والروائي عبداللـه النعيمي أفضل شاهد على ذلك، حيث إنه انطلق من شبكة تويتر للتواصل الاجتماعي بآرائه المثيرة للاهتمام التي استقطبت شريحة كبيرة من الشباب الإماراتي، بل والخليجي ومثّلت الأرضية التي مهّدت لولادة روايته الأولى «اسبريسو» في 2012 الصادرة عن دار كتّاب للنشر والتوزيع، لتحقق نجاحاً ساحقاً في سوق الكتب. وكلمة «ساحقة» ليست بها أي مبالغة، فالمبيعات اللافتة وتصدر قوائم الأكثر 10 كتب مبيعاً في أرفف كبريات المكتبات في الدولة لأشهر بعد صدورها خير شاهدين، وذلك بناء على عوامل عدة اجتمعت في الرواية والراوي ومتابعيه في شبكات التواصل الاجتماعي معاً. وكان من الطبيعي أن يلي نجاح «اسبريسو» الكبير إصدار النعيمي لروايته الثانية «البانسيون» في 2014 من نفس الدار. الملاحظ في كتابات النعيمي سواء في تويتر أو من خلال مقاله الأسبوعي الذي يكتبه في صحيفة «الرؤية» أو في روايتيه «اسبريسو» و «البانسيون» هو تركيزه على العلاقة بين الرجل والمرأة، وتأطير تلك العلاقة وفق التوجهات الشرقية التي ترتكز على عاملين أساسيين، هما الدين كمحدد أساسي لتلك العلاقة، والقناعات المترسخة لكلا الجانبين التي تفرزها العادات والتقاليد والأعراف التي ـ في الغالب ـ لا تكون لها علاقة مباشرة بالدين، وإنما بما جُبل الناس على ممارسته بشكل مترسخ أضحى الخروج عنها «منقوداً»، ويمكن أن نضيف إلى ذلك تضارب توقعات الرجل من المرأة والعكس، وهو ما يؤدي في الغالب إلى فوضى حواس بين الجانبين. في البانسيون، تتجدد تلك الفوضى بين وليد بطل اسبريسو والنساء اللاتي يصادفهن في حياته، ودون الخوض في تفاصيل تفسد متعة قراءة الرواية لمن لم يفعل ذلك بعد، فإن عبداللـه النعيمي أبدع في حياكة التناقضات النفسية والفكرية بين الرجل والمرأة وفق القوالب المجتمعية التي تحكمها الأعراف. ورغم أن أحداث البانسيون لم تقع في منبع تلك القوالب، أو «القيود» كما سمتها نادين أحد مسببات فوضى الحواس في حياة وليد، إلا أنها كانت حاضرة بقوة في مجرى الأحداث. يحرص النعيمي على إيلاء المكان أهمية بالغة في رواياته، ففي الأولى مثّل مقهى الاسبريسو منبع الأحداث الفيصلية للرواية، وتكرر الأمر ذاته في «البانسيون»، بل إن الأخير ارتقى في أهميته ليتحول إلى شخصية أساسية تنافس وليد، وقد استبان ذلك ليس من خلال اختياره عنواناً للرواية فحسب، وإنما في احتوائه لأهم الأحداث التي عصفت بحواس وليد عند التعامل مع «نسائه». مع «البانسيون» توغل عبداللـه النعيمي في محيط النفس البشرية للرجل والمرأة الشرقيين بعد أن لامس شواطئهما في «اسبريسو»، ويُحسب للنعيمي استمراره في تقديم وليمة أدبية في غضون 200 صفحة من القطع الصغير، إضافة إصراره على تقديم أدب نظيف لا يخدش حياء الأسرة الإماراتية، حيث يمكن للأم قراءة الرواية ومن ثم تمريرها لابنتها بأريحية، وهما من عوامل تشجيع الجيل الجديد على القراءة في زمن يتسم بوتيرة متسارعة لا يجد فيه المرء وقتاً لحك رأسه. بيد أن مأخذي الوحيد على البانسيون أنها عمدت في بعض الأحيان إلى تقديم مواعظ للقارئ عبر حوارات الشخصيات الأساسية، إذ إنني أرى أن مهمة الكاتب هو عرض مرئياته من خلال الأحداث وترك حرية استنباطها للقارئ وفق خلفيته الثقافية دون فرضها عليه، خصوصاً أن تلك الحوارات اتسمت برزانة ورجاحة لم تتناسبا مع عمر وليد ذي الأربع والعشرين عاماً في الرواية. كما أنصح النعيمي بأن يخرج من عباءة اسبريسو في عمله المقبل لسبر عوالم أعمق في النفس البشرية، إذ إن محيطات موهبته أوسع من أن تُحصر في اسبريسو أو بانسيون. [email protected]