السبت - 20 أبريل 2024
السبت - 20 أبريل 2024

دبي وتمكين سؤال الأخلاق

تبدو الأخلاق في اللغة والوعي العربي المعاصر دالة فردية، تقف عند الفرد ولا تمتد للمجتمع والعلاقات المؤسساتية والعامة، وكثيراً ما كان التركيز عليها كعمق روحي، فنتكلم عن الأخلاق بمعنى الزهد والالتزام الديني أو الحجاب والنقاب فقط، ولكن لم تتم الإشارة لخلق «كإتقان العمل»، وهو فضيلة وسنة نبوية أكد النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يحبها منا! ولا شك أن الناس تحبها من جميع الناس أيضاً بنفس القدر. وكثيراً ما يتحول الخطاب الأخلاقي في المجتمع العربي والمسلم لدعوى لفظية طهورية، لا تترجم سلوكاً حضارياً وأساساً لعلاقاتنا فيما بيننا أو فيما بين الآخرين، نحن الأفضل ونحن وفقط أمة الخيرية، وتجد شخصاً لا يحترم علاقاته بالآخرين اجتماعياً ودينياً، في احترام الموعد أو الوقت، أو احترام الأمانة أو آداب الطريق، وحقوق الخصوصية، نلوك «الأخلاق» ألفاظاً، من دون أن نراها سمتاً عاماً وحضارياً، فهو يعرف كما نعرف أن أخلاقاً سلبية مكينة فيها تجعل بعض مجتمعاتنا من الأسوأ سلوكاً، ليس أولها التعصب والعنف تجاه الآخر كما نشاهد من بعض القوى ذات الإسناد الديني تجاه الآخر الديني والإثني أحياناً، أو نراها في علاقاتنا من التبصص والتحرش والتلصص وتتبع عورات الناس واغتيابهم واستحلال أديانهم وأعراضهم، ومحاكمة ضمائرهم وغير ذلك. ذات يوم وفي أوج انفجار ما عرف بالربيع العربي أو الثورات العربية، وصف أحد الأصدقاء الثورة المصرية بأنها الثورة الأكثر نبلاً في التاريخ، فأجبته ولكن النبل خلق فردي وهذا يعني أن ثوراتنا السابقة وكان لها نفس الوهج، وربما أكثر، في زمانها، أقل وهجاً وأقل نبلاً! الشأن العام حين يقرأ يجب ألا يقرأ من مدخل الخاص أو الفرد ولكن يقرأ من المدخل العام، فقد كان مهماًّ هنا أن يكون الوصف مختلفاً، متسائلاً عن الأساس النظري والفكري لها وعن رؤيتها للذات وتنوعاتها الإثنية والدينية والجهوية والتاريخية، ورؤيتها للعالم والآخر القريب والبعيد على السواء. الأخلاق في اللغة والوعي العربي كلمة فردية جوانية، لا تنضبط ولا يمكن أن تنضبط، وتتحول من الخفي الخاص إلى الظاهر العام، إلا بقوة القانون وقوة المؤسسة، فيتحول انتهاكها أو اختراقها أو تجاوز مبادئها قصداً أو بلا قصد إلى جريمة تجرمها الدولة ويجرمها المجتمع في آن، فلا يمكن لمسؤول أو غير مسؤول كسر الإشارة المرورية، ويدرك بالكاميرا أنه تحت السيطرة على الرغم من أنه حر، ولكن حرية مسؤولة، فيتضح في كل السلوكات منطق الحق والواجب والالتزام الحر والمسؤول بين الجميع، فالآلة صارت حكماً وليس الضمير الفردي فقط..! من هنا أتى حضور دبي كنموذج مختلف، اهتم بأخلاق المأسسة، وتنظيم كل شيء، بدءاً من علاقة العامل بصاحب العمل، إلى تنظيم الطرقات وإشارات المرور إلى الخدمات الإلكترونية في حكومة إلكترونية تكون البيانات والأدلة هي الحكم وليس القسم والحلف أو الواسطة والعلاقة كما نشاهد في بعض بلداننا التاريخية! كتب كثير من مفكرينا وباحثينا حول ضرورة العودة العلمية لسؤال الأخلاق ومسألته في نهضة هذه البقعة من العالم، منهم المفكر الجزائري الفرنسي الراحل محمد أركون، الذي استرجع واستحيا نزعة الأنسنة في الفكر العربي التي أهملها ودثرها الركام والخلاف الكلامي والديني بين الفرق والمذاهب، والمفكر المغربي المعروف الدكتور طه عبدالرحمن، والأكاديمي المصري الدكتور حامد طاهر أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة، الذي اعتبر في دراسة له أن أهم ما في تراثنا هو التراث الأخلاقي ولكنه الأكثر إهمالاً! نسينا فروق الترمذي وأخلاق ابن مسكوية وابن السكيت واهتممنا فقط بالإمامة والخلافة تلك الفارق بين الفرق كما كان يقول الخطيب البغدادي. ألح هؤلاء وغيرهم على ضرورة التمكين لأهمية المسألة الأخلاقية وضرورة التمكين لها كشرط للنهضة والنهوض، خصوصاً ما يعرف بأخلاق الحضارة وأخلاق المسؤولية، كما يقول ماكس فيبر، وليس الأخلاق الفردية التي تخص أصحابها ويطلع عليها الخالق وحده. ختاماً وعودة لنموذج دبي والدول الحديثة، الأخلاق كقيمة فردية لا يمكن أن يضبطها غير القانون وغير تنظيم الشأن العام، وهذه دلالة آية الدين الأطول في القرآن، حيث أوجب الله كتابة الدين بين المؤمنين حتى لا تضيع الحقوق، هنا يوجهنا الله ألا نعتمد على الضمائر ولكن نعتمد على الأدلة الظاهرة والمعلنة. تحولت سلوكات كثير من العرب والمسلمين في دبي عبر إحساسهم بحضور التنظيم المؤسسي الحديث، فلم يكسر إشارة مرور، ولم يعط رشوة حتى يمرر سريعاً طلباً أو يحل مشكلة له، كما أنه يدرك أن الآخر، هي مدينة كوزموبوليتانية، تضم بين جنباتها ما يزيد على مئتي جنسية، له حقوق كاملة معه، فتعايش الجميع وتصادق الجميع من مختلف الأديان والطوائف، هنا لم يبق مفهوم أخلاقي كالتسامح مجرد مفردة لغوية ولكن سلوك مؤسس ومنظم بين الجميع. إنها الحرية المسؤولة المنظمة مؤسساتياً تصنع المجتمعات الحديثة، أما الظواهر الصوتية التي تجتر الحديث عن الأخلاق تميزاً وخيرية وضميراً فردياً، فكثيراً ما تبقى الأخلاق لا تجاوز حناجرها. [email protected]