الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

في لغة الحياة

عرضت عليّ ابنتي في الصف العاشر سؤالاً في كتاب اللغة العربية نصه: صغ أسماء أفعالٍ على مثال (حَذارِ) من الأفعال الثلاثية الآتية (جمع، قرأ، كتب، علم، وقف). والإجابة بالطبع ستكون (جَماعِ، قَراءِ، كَتابِ، عَلامِ، وَقافِ). مفردات لم أقرأها في كتاب قديم أو جديد، ولم أسمعها على لسان، ولم أشعر في لحظة من اللحظات بأن لها علاقة باللغة التي أنتمي إليها، وتخصصت فيها. وما أعلمه أن ابنتي لو أرادت أن تطلب من أحد الوقوف فستقول له: قِفْ، ولو قالت: وَقافِ فستكون موضع سخرية وتندر بالتأكيد، لأنها تتكلم بلغة غير لغة الحياة. الموقف برمته أثار دهشتي، لكنه فتح عيني في الوقت نفسه على حقيقة مرة تتعلق بأحد أسباب ضعف هذه اللغة، وانعدام ثقة أبنائنا بها، وتدهور حالها على ألسنتهم إذا تكلموا، وأقلامهم إذا كتبوا. لقد تحدث المتحدثون طويلاً عن أسباب محتملة لما وصلت إليه اللغة، ومنها أنها مستهدفة من أطراف تريد تحطيمها بتشجيع العاميات، وتسريب الألفاظ والتراكيب الأجنبية، وإهمال التراث الحامل لها، وتغييب النتاج الأدبي الرفيع، والتشكيك في طاقاتها وإمكاناتها الجمالية والتعبيرية، وانصرفوا إلى كل ما من شأنه أن يزهد بها، ويصرف النظر عنها. شكاوى نسمعها ليل نهار، وفي كل المناسبات، حتى ليبدو للمرء وكأن العالم لا شاغل له سوى اللغة العربية التي لا بد من القضاء عليها. يحدث ذلك في وقت نبدو فيه نحن أشد خطراً على اللغة من هؤلاء (المتآمرين)، كما فعل صاحبنا الذي يريد أن يقنع الشاب الصغير بأن في لغتنا ألفاظاً مثل (وَقافِ «بمعنى قِفْ»، وقَراءِ «بمعنى اقْرأْ»، وجَماعِ «بمعنى اجْمعْ»). وكنت منذ سنوات رأيت في أحد كتب اللغة العربية للصف التاسع سؤالاً نصه: هات اسماً على وزن (مَفْعل) من العدد (تسعة). والجواب طبعاً (مَتْسَع). شخصياً لا ألوم الشاب إذا كره لغته، ونفر منها، وانطلق لسانه بألفاظ أخرى عامية أو أجنبية، وهو يتلقى مثل هذا التعليم في لغته. هذا في باب النحو، ومثله في باب الأدب عندما يجد طالب الصف العاشر نفسه أمام نص يقول فيه صاحبه: إلا الأواري لأياً مــــــا أبينهــــــــا والنؤي كالحــــوض بالمظلومة الجلد ردت عليه أقاصــــــيه ولـبده ضـــرب الولـــيدة بالمسحـــــاة في الــثأد حالة أقرب ما تكون إلى الفصام نعيشها مع هذا النوع من تعليم اللغة العربية، حيث ينعدم الشعور بالانتماء إلى اللغة، ليحل محله شعور بالغربة لأن التعامل هنا يتم مع لغة غير لغة الحياة، وأدب بعيد كلياً عن الواقع. والخلاصة أننا لإنقاذ اللغة بحاجة إلى إعادة النظر في طريقة تقديمها إلى الشاب، بحيث نشعره بأنها لغته الطبيعية الحية التي لا تنتزعه من ظرفه التاريخي، ولا ترتد به مئات السنوات إلى الوراء. وقبل أن نتهم الآخرين علينا أن نحاسب أنفسنا على ما نصنعه بحق لغتنا سواء أكان ذلك عن قصد أو غير قصد. [email protected]