السبت - 20 أبريل 2024
السبت - 20 أبريل 2024

محمد بن راشد .. والذود عن العربية

إن اللغة العربية كانت وما فتئت كلمة حضارة وموئل سعي إنساني صاعد، وحاجتنا إليها اليوم لا مثيل لها سابقاً بعدما اتُخذت غرضاً وهدفاً لنصال تلو النصال من فئات لعبت بساحتها الأهواء، فهي عند نفر لغة شائخة لا تنهض بفكر ولا تجري في مضمار الحضارة إلى غايته حتى يلهث ويبطل فيها نبض الحرف، وهي عند آخر لغة جاءت والصعوبة على موعد، فالقاعدة فيها عصية لا تلين؛ لهذا كله أجدُني مغتبطاً كلما أسْلِمَ إلى يدي كتابٌ يُعنى بالعربية في مجالات أبنيتها أو قواعدها أو حكاية نشوئها وتطورها، ولقد استبد بي الاغتباط استبداده وذهب بي كل مذهب حين أطلقت الجائزة العالمية (جائزة محمد بن راشد للغة العربية)، ومرد هذا الاغتباط عندي أن اللغة أحد وجهي الفكر كأحد وجهي الدرهم؛ فإذا لم تكن لنا لغة قومية صحيحة فلن يكون لنا فكر قومي صحيح. لن يكون لدينا فكر صحيح وأحد وجهيه مهترئ مطموس المعالم، إذ إن هناك علاقة بين المعاني والألفاظ في حيز الفكر؛ لأن أحدنا لا يمكنه التفكير إذا لم تكن لديه لغة ذهنية، فالفكرة تتكون في حنايانا بكلمات ثابتة في جوهر النفس؛ إذاً فإمكانية التفكير أولاً وآخراً تستند للغة، وفي مجتمع الإمارات حدث تراكم لأشتات الشعوب وأشتات اللغات هذا التراكم – إذا بلغ الذروة – جعل اللغة تنكمش وتتخذ من العامية إبداعاً، فأصبحنا نأخذ من اللغات الهندية، الباكستانية، الأوردية وغيرها الكثير، ما دعا إلى الانزلاق بلغتنا الفصحى، وأصبحت الفصحى داخل إطار الكتاب المدرسي وهذا ما جعل هذه الجائزة تمتعني حقاً؛ إذ ستجعل اللغة العربية تتسع ليومك مثلما اتسعت لأمسك، وهذا ما أدركه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم بحسه اللغوي المبدع، ولِمَ لا وهو الشاعر الفارس الأريب. من هذا المنطلق يمكن القول دون الوقوع في زيف المغالطات أو الدلوج في سراب المبالغات إن اللغة هي المقياس الأمين للتقدم الاجتماعي والنهوض الحضاري والتطور الإنساني، ولغتنا العربية التي تكونت في مراحلها الأولى في شبه الجزيرة العربية نافذة إلى مناطق الشام والعراق مع موجات الهجرة قبل الإسلام قد عرفت الامتداد والانتشار تشععاً فتمركزاً من المحيط إلى الخليج، ومن ثم التوغل في أعماق أفريقية سائرة والإسلام جنباً إلى جنب، عاملة على صهر الشعوب في بوتقة الأمة الواحدة، ولا يمكن الشك بأنها أحد معايير وجودنا القومي وعامل أساسي في نشوء وبقاء وارتقاء عالمنا العربي. والعربية ككل اللغات الحية لغة منفتحة على الحياة، متفاعلة مع التقدم متطورة بفعل النهوض الحضاري تتصف بالمرونة والطواعية، وحسبك تلك الطاقة الكبرى في الاشتقاق التي ترادف الاستيعاب، حتى إذا ما نعى عليها مهيضو الجناح فكرياً وضيقو الأفق نفسياً أن عودها لا حياة فيه؛ تصدى لهم من ينافح عنها ويذود عن حياضها، وحسبنا في هذا الصدد شاعر النيل حافظ إبراهيم القائل على لسانها وهي تخاطب أبناءها: وسِعـــــْتُ كتــاب الله لفظـــــاً وغــــــــــايــــة ومــــــا ضقــــــــت عن آيٍ بــــه وعظــــــــــــــاتِ فكــــيف أضــــيق اليومَ عن وصــــف آلـــة وتنســــــــــيـــق أسمـــــــــــاء لمخــــتـــرعـــــــــاتِ أنا البحــــــرُ فـــــي أحشـــــائــــه الدرُ كـــــــامن فهــــل سألــــوا الغـــــواص عـــــن صـدفاتي فــــيـــا ويحكــــم أبلــــى وتبلى محـــــــاســــني ومنكـــــــــــــم – وإن عـــــزَّ الـــدواء – أُســـــاتي فــــــــــلا تكلــــــونـــي للـــــــــزمـــــــــــــــان فــــــإنني أخـــــــــــــــاف عليكـــــم أن تحــــيـــن وفـــــــاتي ويمكنني القول بلغة الواثق إن صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم ينافح عن لغتنا العربية في عهدنا هذا بتكريم المبدعين في استعمال العربية في تطوير التعريب والتعليم والتكنولوجيا والإعلام والمحافظة على التراث ونشره؛ لثقته بأن تطور العربية بتطور أبنائها ولا يمكن أن يحيا تحت شمس الفكر إلا بتلك الوشيجة الحياتية غير المفتعلة بين تراثنا العربي الضخم والتقدم العلمي والاجتماعي الشامل، ولاسيما في إمارات السعد. وإطلاق سموه لهذه الجائزة هو إطلاق للإرادة التي هي من ديدنه، هو إطلاق للوعي العربي بأهمية العربية لغة القرآن الكريم، وكما عودنا سموّه على المبادرات الخلاقة والرؤى العملاقة تأتي الجائزة مفتاحاً لدخول بيت اللغة العربية والبحث فيها عن معاني المجد وسؤدد اللفظ ورونق المعنى، وعن سمائها التي تلألأت بنجوم الشعر والأدب. ولِمَ لا وهو فارس العرب وشاعر لا يشق له غبار، بعدما رأى سموّه أن العربية تعيش هذه الأيام في مأوى للعجزة على سرير المرض، ولا أحد من الأبناء يقوم بزيارتها والاعتناء بها؛ لأن لغات أخرى (أمهات أخر) حلَّت محلها بعدما تخلى الكثير عن أبجديتها وتنصلوا من قواعدها وتحللوا من رفعها ونصبها؛ حتى صارت مجرورة دائماً مكسورة في كثير من الأحيان؟! فكيف لنورسها أن يُحلّق في الآفاق وأجنحة الحروف مقطوفة محفوفة بأخطار اللهجات الأخرى؟ كيف يحدث هذا والأطفال يلفون رؤوسهم الصغيرة تحت أجنحة الخادمات، والأمهات نائمات غائبات عن المسؤولية الأسرية؟ كيف يمكن أن نحفظ الود مع العربية والناس أصبحوا يتعاطون الأحاديث فيما بينهم وأمام الصغار بلغات ملونة متعددة الاتجاهات والانتماءات؛ بل إن بعضهم يفتخر بسكب بعض الكلمات الأجنبية ما بين نسيج الحديث متفاخراً بأنه مثقف وضليع بلغة غير لغته؟ بل صار هذا الأسلوب من (البرستيج) القاتل للعربية. لذا أعتقد أن أولى الجهات التي يجب أن تطرح مبادراتها النيرة لخدمة الفصحى وزارة التربية والتعليم؛ لأنها المعنية بتشذيب اللغة من أوراقها الصفراء وتهذيب اللسان وترتيب الوجدان وتقريب الأبناء من لغتهم حتى لا ينفلتوا خارج سرب العربية لغة الإنسانية جمعاء، اللغة الكونية التي تسخر للإنسان مفاهيم الحياة وتفصح عن اكفهرار طاغ بالمجهول، فهي تأخذنا إلى فضائها فتحن الروح للوقوف في جوفها الروحي، إنها عنوان الهوية ورمزها؛ ولأن بقاء وقوة الأمم يرتبطان بالحفاظ عليها وحفرها في صدور الأجيال المتعاقبة حملت الإمارات على عاتقها مسؤولية رفع لواء حماية العربية مع إطلاق صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم جائزته متضمنة حزمة من المبادرات بهدف الحفاظ على اللغة العربية وصونها، بعد أن مجد الشعر وتشرب معاني العربية في نفسه وروحه وعقله، وصار مؤمناً بنحتها في قلوب وعقول الأبناء جيلاً بعد جيل.