الخميس - 18 أبريل 2024
الخميس - 18 أبريل 2024

موسم الهجرة إلى الحبيب

كانت الحافلة تسير بنا في الطريق إلى المملكة العربية السعودية لأداء العمرة، وكان الظلام قد حل علينا، والمرشد الذي يرافقنا يحاول إشاعة جو من التشويق والحماسة عبر طرح الأسئلة الدينية .. مضت ساعات لم يأخذ فيها المرشد سوى قليل من الراحة، يطرح الأسئلة تلو الأسئلة، ويسرد المعلومات بأسلوب طريف، ويحاول شرح منهج العمرة لمن يعتمر فينا لأول مرة، وكنا نتبارى في رفع أيدينا والإجابة عن أسئلته، ما عدا ذلك الرجل الجليل بلحيته البيضاء فقد بقي جالساً إلى جانب زوجته صامتاً، يراقبنا من دون أن يشارك بالحديث، وإذا ما طرح أحدهم عليه سؤالاً يجيب على قدر السؤال ثم يعود لصمته. عند اقترابنا من المدينة المنورة، أثار صمته فضول العديد، فدخلوا معه في حوار، فإذا به رجل مملوء علماً ومعرفة، وإذا بصمته صمت العارفين .. بدأت الصورة تتضح شيئاً فشيئاً لدى دخولنا إلى المدينة المنورة، وضع الرجل أمتعته على عجل في غرفته بالفندق، ومضى مسرعاً إلى المسجد النبوي وهو يهتف بصوت خافت (يا حبيبي يا رسول الله) .. انكشف الأمر لحظتها لقد كان الرجل يوفر أنفاسه طوال ساعات الرحلة، ليرسلها زفرات حرّى أمام ساكن الروضة الشريفة لعله يحظى بقبس من نوره، لم يكن صمته صمتاً كاملاً تاماً، صمت لسانه ولم يصمت قلبه كما يقول أحد الزهاد (من صمت لسانه ولم يصمت قلبه، خف وزره) .. طقوس للزيارة لا يتقنها إلا العشاق الصادقون. في المدينة شاهدت طقوساً عديدة لعاشقي الحبيب الهادي، وكل يحبه على طريقته، ها هو رجل يرتدي عمامة سوداء، يقف خارج أسوار الحرم المدني، وبيده كتاب أدعية يتلو منه كلمات بلغته، وهو ينظر بعينيه ناحية الروضة الشريفة. في اليوم التالي، أنهيت صلاة الظهر، ومشيت في ساحات الحرم الشاسعة لكي أعود إلى حيث أقيم، كان يمشي على مقربة مني ثلاثة شبان من مسلمي أوروبا، وعند الوصول إلى البوابة الخارجية والتي تحاذي الروضة الشريفة، التف الشبان الثلاثة على نحو مفاجئ إلى الخلف وبحركة جماعية وضعوا أيديهم على صدورهم ناظرين ناحية الروضة الشريفة وابتسموا وانحنوا انحناءة أوروبية مهذبة، ثم خرجوا بظهورهم من البوابة. من منا لم تخنقه العبرات وهو يقرأ أو يستمع إلى سرد للحظات الأخيرة من حياته عليه الصلاة والسلام؟ من منا لم يتخيل ذلك اليوم، الثاني عشر من ربيع الأول في العام الحادي عشر للهجرة يوم الاثنين، الحبيب يرفع ستر حجرة عائشة، يلقي النظرة الأخيرة على عامة المسلمين وقد انتظموا في صلاة الفجر، ويهم المسلمون بالحركة ظناً منهم أن النبي يريد أن يخرج للصلاة فيومئ بيده الشريفة أن أتموا الصلاة، يرخي الستارة ويدخل في مرحلة الاحتضار، وتصعد روحه الطاهرة وقت الضحى من ذلك اليوم، بعد أن ألقى على صحبه نظرة الوداع. مشيت في طرقات المدينة المنورة وتذكرت صحابياً كان يذرع طرقات المدينة ذهاباً وإياباً - بعد وفاة النبي - على غير هدى، ولما سئل عن سبب ذلك أجاب (لعل الخطوة توافق الخطوة) .. إنه يتحسس موضعاً ربما ما زال يحمل أثراً من خطواته صلى الله عليه وسلم. في أفراحنا نتغنى بالصلاة عليه، وفي أحزاننا نفزع بعد الله إليه، إنه النبي والهادي والمعلم صلى الله عليه وسلم، لكن بعضنا للأسف يحبونه بقلوبهم أكثر من عقولهم، ولو أدرك الجميع معنى التشبث بسنته وتعاليمه ما كنا وصلنا إلى هذا الدرك من الذل والهوان. في موسم الهجرة إلى الحبيب يا لفقر كلماتي أمام عظمته، ويا خجل حروفي من هيبته، ويا خوفي من نظرة عتاب من عينيه يوم تتطاير الصحف فوق الرؤوس. يا صـــــاحب القـــبر المنـــير بيثــــرب يا منتهى أملـــي وغــــاية مطلبي يا مــــن به فـــــي النائبـات توســـــلـــي وإليه مــــن كل الحــوادث مهربي يا مــن نرجـــــيه لكشـــــف عظـــيـمة ولحــــــل عقـــد مـــلــتوٍ متصـــــعبِ يا غوث من في الخافقين وغيثهم وربيعهـــم في كل عــــام مجـــــدبِ يا رحمة الـــدنيـــا وعصــــمة أهلهــــا وأمــــــان كــــل مشــــرّق ومغــــــرّبِ