الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

مصادرات ذوقية

في عصر الانفتاح الحضاري والتكنولوجي والثقافي، وسقوط المسافات بين فئات المجتمع، التي أسقطت معها الكثير من الحواجز في عملية التواصل، على اختلاف الشرائح المجتمعية، ومعها سقطت الكثير من أدبيات التواصل، وذوقيات فن التعامل مع الآخر. وجوه التجاوز كثيرة، ومؤسفة جداً، وكأن عوامل تعرية اجتاحت بني الإنسان، لتسلخ عنه وازعه القيمي التربوي الذوقي، ليتحول إلى كائن فاقد لمعظم حواسه، أشبه بآلة مبرمجة بتطبيق واحد، بلا ذائقة. قبل سنوات عدة، فاجأتني صديقتي بتقديم استقالتها من عملها، وهي لم تكمل السنة بعد، أذكر أنها هاتفتني تبكي، هدّأتها، وطلبت منها اطلاعي على أسباب هذه الاستقالة المفاجئة. أخبرتني أن زميلها في العمل، وأثناء شرحها له عن تفاصيل معاملة مشتركة بينهما، قاطعها فجأة، قائلاً «فلانة، أنتِ عندك شعر خفيف في شنبك، بتستوين ريّال، هههههه»! اصفرت واخضّرت البنت المسكينة، وركضت صوب دورة المياه، لتنهار بكاءً، بسبب ذلك الزميل الأحمق. استقالت، وانتقلت إلى وظيفة ثانية، في مقر جديد، مع زملاء جدد، ولكنها لم تسلم من بعض التجاوزات من بعض الزملاء الذكور، وحتى الإناث أحياناً. وهنا، أتساءل، هل هناك نقاط في عقد العمل، تبين للموظف المستجد، حدود علاقة الزمالة مع زملائه الموظفين، وخاصة الإناث؟ هل يعرف معظم الموظفين حدود وأدبيات التواصل مع زميلاتهم في العمل، أين تبدأ، وأين تنتهي؟ بالطبع، لا، فالمسألة تبقى قيد التربية، والضوابط الأخلاقية التي تربى عليها ذلك الموظف والموظفة أيضاً. هذه التجاوزات غير المحسوبة نجدها ونصطدم بها خلال تواصلنا عبر قنوات التواصل الاجتماعي، فبلا سابق معرفة ولا إنذار يأتيك من يُملي عليك شروطه في تقييد حرياتك ومصادرة مزاجك وفكرك كلياً في إدارة حسابك، وبطريقة مباشرة استفزازية وقحة. في وقت أنك لم تجبره فيه على متابعتك، ولا أنت قد مارست حق مصادرة حرياته الشخصية، أو الذوقية في حسابه الشخصي. عدا التأويلات الميتافيزيقية التي تنثال عليك من البعض، حتى إنك تشك أحياناً بأنهم «مستلبسين»، يعني «راكبهم جنّي»، يطلقون سهامهم جزافاً بلا وعي. حتى إنهم في نقاشاتهم العقيمة معك، المواتية لتفريغ سمومهم في وجهك بلا ذنب، لا يكلفون أنفسهم البحث في حقيقة وصحة ما «ينكافونك» فيه، كعادة الصِداميين من مستخدمي تلك الوسائط. وحتى حينما يجد نفسه مخطئاً، فلا يكلف نفسه بالاعتذار، لأنها فضيلة لا يجيدها، ولم يتربّ عليها. أعتقد، أننا نحتاج، وبشدة، واليوم، وأكثر من أي وقت آخر، إلى إعادة تهذيب وتشذيب سلوكي شامل، نستعيد به فضيلة حسن الإنصات أولاً، وعدم ملاحقة الناس والتطفل عليهم وعلى خصوصياتهم، أو فرض آرائنا وأفكارنا وذوقياتنا عليهم وبلا مسوّغ. نحتاج ترسيخ آداب وذوقيات وشروط التخاطب والتواصل «الإنساني الحضاري» مع الآخرين، ولا تسقط منا مهما تضاءلت المسافة بيننا وبين الآخر، فلا يعني مصادرة حرياتهم، أو التعدّي على خصوصياتهم، أو ممارسة أي سلطوية باطلة من أي نوع بغرض إحراجهم أو استفزازهم، أو لاستعراض «عضلات معوقة»! [email protected]