الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

أغنية للغروب

ينطلق فيلم «أغنية للغروب» من فكرة أساسية هي أن القسوة لا تنبع بالضرورة من أعماقنا بل من الظروف المحيطة بنا، وأن الشروق يتبع الغروب، ولكن ربما بعد أمد طويل «مجازياً» وسلسلة من الأحزان والإحباطات. فبعد أن نجح المخرج تيرنس ديفيز في اقتناص أدق العواطف والمشاعر الإنسانية ببراعة في أفلام مثل بيت المرح، وبحر أزرق عميق، تحول من التعبير عن القلب البشري والأحاسيس المرهفة إلى العالم الحسي والواقعية بكل قسوتها في ذلك الفيلم. من جانبه، يحاول المخرج أن يخفف من قسوة الحياة والمشاعر بجمال الطبيعة وفتنة الصاعدة بقوة الممثلة البريطانية أجينس دين التي لعبت دور البطلة الاسكتلندية كريس جوثري. ورغم أن رواية لويس جراسيك جيبونز المأخوذ عنها الفيلم تحتفي بالريف الإنجليزي وتصف مناظره وحياته بواقعية، إلا أن الفيلم ركز بالأساس على قصة الحب الرومانسية بشكل يذكرنا برواية جين إير لشارلوت برونتي. والحقيقة أن المخرج اعتنى بـ «ملح الأرض» من البسطاء في الريف الاسكتلندي وتداعيات الحرب عليه، ولكنه استغنى عن تفاصيل قاسية مثل مشاهد عذاب وآلام الولادة، وغرائز الحيوانات من أجل البقاء. ومع ذلك لم يتجمل المخرج وهو يصور لنا عالماً لا يهتم بالضعفاء البسطاء، عالماً ليس من الحتمي أن ينتصر فيه الخير على الشر وفقاً للأسطورة الدارجة. يرسم الفيلم مواجهة بين ابنة المزارع كريس وزوجها القاسي إيوان «كيفن جوتري» الذي يعاملها بعنف حتى في أوقات الرومانسية، ومواجهة أخرى بين التزامها ومسؤولياتها تجاه عائلتها وبين حبها للقراءة والتعلم الذي قادها في النهاية لكي تعمل بالتدريس. وترسم الكاميرا بواقعية مشاهد الحصاد والبيوت البسيطة التي تسكن فيها أو تحوم أرواح الأجداد، والالتصاق بالأرض والولاء لها، مقابل التهرب من الاشتراك في حرب تجر الخراب على المزارعين الفقراء الذين يدفعون معظم ثمنها وتضحياتها. ويتواجد الرمز في العديد من مشاهد الفيلم بداية من عنوانه «أغنية للغروب» الذي يرمز لماضٍ جميل انقضى وذكريات ولت، ويبدو الأب «بيتر مولان» بقسوته وغليونه كأنه محور الأحداث ومحركها أو الذي يباركها، ويقاسي تبعاتها. وتحمل نهاية الفيلم أجواء مشحونة بالشجن والشاعرية مع مشهد الغروب والموسيقى وورود الغابة ومحاصيل الحصاد وذكريات من رحلوا .. صور غائمة وضباب يحجب الرؤية وحزن واكتئاب، وأحلام مجهضة وأمل في غد لم تلح تباشيره. المحصلة النهائية أن المشاهد لم يتعاطف مع الأب الذي يوزع قسوته على الجميع حتى أقرب الناس إليه، ولكن أحداً لم يتساءل من أين استمد تلك القسوة؟ ولو أنصفه لأدرك أن الحياة كانت أقسى منه، وأن صرامته هي أسلوبه في البقاء والحفاظ على الأسرة. وفي المقابل قدمت كريس صورة للجمال الحزين، الفتاة التي تحلم بالتعليم والحب والأشواق، ولكنها لا تستطيع أو لا تريد عصيان والدها والتخلي عن أسرتها، فتكتفي بالحلم والأمنيات، وتجتر الحزن على فراق أحبائها في صمت تشي به نظراتها الغائمة. أخيراً، ينبهنا المخرج إلى أن ما هو مقبل أصعب، مع اقتراب نذر الحرب العالمية الأولى وانضمام إيوان إلى الجيش، كأن الحزن هو المكتوب وهو القدر الذي لا فكاك منه.