الجمعة - 19 أبريل 2024
الجمعة - 19 أبريل 2024

مرثية عاشق السفر في رحلته

لا أدري لماذا عندما تلقيت نبأ وفاة الصديق الراحل عمار السنجري، أول ما تبادر إلى ذهني وتراءى أمام عيني منظره وهو يمسك جواز السفر العراقي الجديد، ويشير إلي به وهو يضحك قائلاً: وأخيراً، سأرحل. خلال السنة الماضية التي سبقت وفاته، عشت معه جزءاً من معاناته اليومية بخصوص تجديد جواز سفره المنتهية صلاحيته. كانت هذه المعاناة تلخص أوضاع العديد من العراقيين مع العبث الإداري الذي استقر ببلاد الرافدين، وأحال حياتهم إلى جحيم سواء داخل العراق أو خارجه. السفر عند عمار، رحمه الله، لم يكن هواية بل هوية. كتاباته واهتماماته بأدب الرحلات جعلت من السفر لديه جزءاً من الكتابة والتوثيق. كل رحلاته كانت عبارة عن سبر لأغوار الأمصار التي زارها، تاريخاً وجغرافية وتراثاً وثقافة. وهذا ما جعله ذا ثقافة موسوعية تمتد إلى مجالات مختلفة من العلوم والمعارف الإنسانية. عمار، رحمه الله، كان كما كنا نتندر معه وعليه «فأر كتب»، يقرأ بنهم وشراهة نادرة. أكاد أجزم بأن الكتب كانت تقاسم عائلته الصغيرة أغلب مدخوله الشهري، إن لم تكن على حسابها. كان من القلة القليلة الذين أعرفهم ما زالوا يفضلون الكتابة بالقلم على الورق عند الإرهاصات الأولى للإبداع، بدل النقر على الكمبيوتر. كانت أحلام عمار، رحمه الله، بالسفر كثيرة وكبيرة. كانت لديه مخططات لزيارة أغلب مناطق العالم التي يمكن أن تثير شغفه وولعه بالتراث الثقافي الإنساني. كان شمولياً في اختيار وجهات سفره. يكفي أن يكون هناك شيء أصيل يستحق الاهتمام. حدثني عن رغبته في زيارة أفريقيا وبعض أدغالها. استفسرني كثيراً عن دول أفريقية كنت زرتها سابقاً، واستقر رأيه على برنامج أسفار بمجرد أن ينهي موضوع تجديد جواز السفر. طرحنا العديد من الحلول لتجاوز معضلة الجواز العراقي. كان رحمه الله مستعداً لتقمص أي جنسية أخرى يتيح له جوازها السفر والترحال كما يشاء. ضحكنا كثيراً، ومن الهم ما يضحك، عندما أخبرته أن بعض الدول الأفريقية تشترط أن يتزوج إحدى مواطناتها لقاء الحصول على الجواز. قال بأنه من أجل جواز سفر، لن يكتفي بمثنى أو ثلاث أو رباع، أي عدد يتيح فسحة الأمل والانطلاق إلى أرض الله الواسعة. استطاع أخيراً، بعد عمولة مجزية، أن يحصل على جواز عراقي جديد ولو أن فرحته كانت مشوبة بشيء من الحذر نظراً للصعوبات التي أصبحت تطال منح التأشيرات من أغلب دول العالم للعراقيين الراغبين في السفر. عمار، رحمه الله، كان يحب المغرب والثقافة المغربية كثيراً. زار المغرب رفقة زميله وصديق عمره الأستاذ عبد العزيز المسلم وقضينا أياماً جميلة في بعض ربوعه، وتركت مدينة الصويرة في نفسه أثراً جعله يذكرها في كل لقاء بيننا. وكانت أمنيته أن يمتلك بيتاً صغيراً فيها، وخصوصاً ضواحيها حيث يجد العديد من المبدعين من مختلف دول العالم ضالتهم هناك في الإلهام والتركيز. كنت وعدته بتحقيق أمنيته بمجرد حصوله على الجواز الجديد، ولكن شاءت الأقدار غير ذلك. قرأت أغلب ما كتب عمار، رحمه الله، عن رحلاته السابقة، ولكني بكل تأكيد لن أقرأ ارتساماته عن وجهته الأخيرة. وأكاد أجزم بأنه سعيد فيها بكل تأكيد، لأنه قبل يومين فقط من رحيله المفاجئ كان قد كتب ما يشبه النبوءة على صفحة حسابه الخاص بالفيسبوك. كتب عمار يوم 24 أكتوبر ما يلي، ورحل يوم 26 أكتوبر: «أخبار الموت تهطل كالمطر يا رب إذا جاء قدرنا نسألك حسن الرحيل وحسن الأثر». رحمة الله عليك يا صديقي عمار، لم ولن يذكر منك كل من عرفوك إلا «حسن الأثر».