السبت - 20 أبريل 2024
السبت - 20 أبريل 2024

مفترق طرق

يحدد الدور الذي تلعبه الصين في النظام الدولي في العقد المقبل، شكل خريطة العالم وأجندة السياسة الدولية، والمنظمات الدولية التي تتولى ترجمة هذه السياسات على أرض الواقع. وسواء كانت قوة الصين في طريقها إلى النمو أو الاضمحلال، فإن الكيفية التي سيحدث بها ذلك تكشف الكثير ليس فقط بالنسبة للصين كدولة ومجتمع، وإنما أيضا لمستقبل النظم السياسية والاقتصادية والمؤسسية الدولية. وليس هناك شك في أن العالم الذي تواصل فيه القوة الصينية توسعها، والذي تترسخ فيه الزعامة الصينية للمؤسسات الدولية يختلف تماماً عن عالم يخفت فيه نفوذ التنين الصيني على المسرح الجيوسياسي، وتذعن فيه الصين لقواعد النظام القائم. ورغم كل المشكلات التي تعاني منها ستظل الصين على الأقل في المستقبل المنظور واحدة من الدول القليلة تتحدى علانية الهيمنة السياسية والاقتصادية والعسكرية الأمريكية، وشرعية المنظمات الدولية التي تسيطر عليها وتقودها الولايات المتحدة. وبعبارة أدق فإن مسار القوة الصينية على المسرح الدولي، يحدد في حقيقة الأمر المسار الذي سيتخذه النظام القائم، والتغيرات التي يمكن أن تطرأ عليه. والتحدي الأساسي الذي يواجه فهم تأثير مسار النمو الصيني على مسار تطور النظام الدولي، هو كيفية قياس القوى المحركة لهذا النمو، والمعوقات التي تعترض سبيله بدقة. لا شك في أن التنبؤ بمسار الصين على الساحة العالمية يتطلب فهماً لتحدياتها الداخلية، والتي ستحدد بدورها سلوك الحكومة الصينية، وردود فعلها على التغيرات في النظام الدولي. وفي الواقع، أعادت الأزمة المالية العالمية في عام 2008 تشكيل المشهد السياسي والاقتصادي في الصين، ومثلت نقطة تحول في التحديات والأولويات التي تواجه الحكومة الصينية. وباختصار، فإن الأزمة المالية العالمية أجبرت الصين على تغيير نموذجها الاقتصادي القائم على التصدير للأسواق الخارجية، حيث ارتفعت الصادرات الصينية بين عامي 1979 و2007 كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد من أقل من ستة في المئة، إلى ما يقرب من 36 في المئة، أي أكثر من ثلاثة أضعاف النسبة في الولايات المتحدة، وضعف نسبة الصادرات إلى إجمالي الناتج المحلي في اليابان، وعلى قدم المساواة مع ألمانيا. تقلبات الأسواق تهدد الاستقرار السياسي ارتفعت قيمة الصادرات بحسب الإحصاءات الرسمية الصينية من لا شئ تقريباً في عام 1980، إلى 288 مليار دولار في عام 2001، وإلى 1.2 تريليون دولار في عام 2007. ويعمل نحو 300 مليون عامل صيني أغلبهم مهاجرون من القرى الصينية الداخلية الفقيرة، في الشريط الساحلي للمدن الصينية، والذي يمثل عصب امبراطورية التصدير. ورغم أن الزعماء الصينيين أقروا في السنوات التي سبقت الأزمة المالية، بمحدودية نموذج نمو الاقتصاد الصيني القائم على التصدير الموجه والمخاطر التي ينطوي عليها، إلا أنهم لم يدركوا أن ارتفاع معدلات التحضر، ومستويات التعليم وتكاليف المعيشة في المدن الساحلية، من شأنه في نهاية المطاف، أن يقوض القدرة التنافسية للصادرات الصينية القائمة على الأسعار المنخفضة، رغم كافة الجهود الحكومية الرسمية وغير الرسمية لإبقاء التكاليف منخفضة. وبعبارة أدق فإن نموذج النمو، الذي اعتمدت عليه المعجزة الصينية يغذي ويعمق الفوارق الاقتصادية بين المناطق الساحلية والداخلية. ما يعرض التماسك الاجتماعي والسياسي للبلاد للخطر. وبالتالي لم يكن أمام الصين بدٌ من التحرك نحو نموذج أكثر اعتماداً على الاستهلاك المحلي، وأقل عرضة للانخفاض في الطلب الخارجي على السلع، وعلى الخدمات ذات القيمة المضافة العالية والصناعات التحويلية. تكثيف الاستثمار للتنصل من الإصلاحات عارضت الحكومة الصينية تبني سلسلة من إجراءات الإصلاح الاقتصادي الليبرالية ستكون لها آثار سلبية تزعزع الاستقرار لتفادي الفقر المدقع، الذي يعاني منه معظم السكان. وبعبارة أدق اختارت الصين أن تضاعف حجم الاستثمارات الحكومية في مشاريع الإسكان والبنية التحتية، بدلاً من إجراءات الإصلاح الاقتصادي. وتشير الإحصاءات إلى أن الاستثمار في الأصول الثابتة الذي يعد مكوناً رئيساً من مكونات الاقتصاد الصيني، زاد في الفترة بين 2007 ـ 2013، من 39 في المئة إلى 46 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. ومنذ عام 2012 منحت البنوك الصينية والمؤسسات المالية غير الرسمية أكثر من تسعة تريليونات دولار من القروض الجديدة، واستحوذ قطاع البناء على نسبة 50 في المئة من بينها. ووجهت كثير من الاستثمارات إلى مشاريع إنتاجية مثل السكك الحديدية عالية السرعة، وخطوط الأنابيب والبنية التحتية للطاقة، وبناء الطرق والموانئ التي من شأنها أن تساعد في نهاية المطاف على ربط المناطق الداخلية والمناطق الساحلية، في إطار اقتصاد وطني موحد وفعّال. الأزمة المالية تعصف بخطط النمو الصينية حققت البرامج التي طبقتها الحكومة الصينية نجاحاً مخيباً للآمال طوال الخمسة عشر عاماً الماضية، لأن الطلب الخارجي القوي على السلع الصينية الرخيصة، خصوصاً في الولايات المتحدة وأوروبا، جنباً إلى جنب مع ارتفاع الطلب في المدن الساحلية الصينية على اليد العاملة الرخيصة من الداخل، كان يحول دون حدوث تغييرات جوهرية تقود الصين إلى حيث ينبغي أن تكون على الساحة العالمية. ورغم أن الأهداف الطويلة الأجل لتحفيز الاستهلاك المحلي، وتطوير قطاع خدمات ذات قيمة مضافة عالية، والارتقاء بعمليات التصنيع على سلم القيمة المضافة كانت حيوية بالنسبة للقادة الصينيين، إلا أنهم لا يستطيعون في نهاية المطاف تجاهل الأهداف على المدى القصير، والمتمثلة في الحفاظ على معدلات عالية من التوظيف. ويؤكد مختصون أن الأزمة المالية العالمية ألغت هذا المنطق بين عشية وضحاها، فعلى الرغم من أن الصادرات الصينية واصلت النمو من حيث القيمة الدولارية بعد عام 2007، إلا أن حصتها من الاقتصاد الصيني تراجعت من 36 في المائة إلى أقل من 22 في المئة، في غضون ست سنوات. وفي الوقت نفسه، فإن التحولات التي شهدها النظام الاقتصادي الدولي خلقت واقعاً اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً جديداً جذرياً في الصين، أصبح واضحاً في الفترة 2009 ـ 2010 أن الأزمة، ليست مخاضاً لحظياً في واحد من الاقتصاديات الرئيسة في العالم، وإنما هي في الواقع بداية لما ثبت لاحقاً أنه فترة نمو بطئ طويلة. ودفعت الأزمة الاقتصادية العالمية قادة الصين لتسريع عملية الانتقال، من نموذج اقتصادي يرتكز على كبح جماح الاستهلاك المنزلي الخاص بصورة منهجية، عبر الحفاظ على الأجور منخفضة بشكل مصطنع وتكاليف مدخلات التصنيع، إلى نموذج يستند إلى التوسع في الاستهلاك المحلي.