الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

الابتكار الاجتماعي .. ضريبة حقيقية على الشركات

منذ مئتي عام ظهر كتاب صغير نشره مهندس إنجليزي شاب اسمه إيبينزر هاوارد على نفقته الشخصية، تحدث عن ضرورة إيجاد حلول للمشكلات التي تواجه المدينة الحديثة، والتعامل معها على أنها تخصص خاص قائم بذاته، كانت لندن في ذلك الوقت هي المدينة الوحيدة التي يسكنها أكثر من خمسة ملايين إنسان؛ ولذلك كان يجب أن يبدأ السؤال: ماذا يمكن أن نفعل من أجل جعل الحياة المدنية الحديثة أسهل؟ ومثلما طرحت إحدى الشركات اليابانية الشهيرة (هيتاشي) في إعلان تلفزيوني لها السؤال المهم «كيف نجعل المدن الكبيرة سهلة الإدارة؟» نجد أن السؤال لا يزال مطروحاً منذ أن طرحه المهندس إيبينزر هاوارد عام 1889، فهل هذا يعني أن الإنسانية مع تقدمها، فشلت في الإجابة عن هذا السؤال؟ بالتأكيد لا. فالسؤال نفسه يطرح نفسه كلما تقدمت الإنسانية، وحين نتوقف عن طرح هذا السؤال تكون قد بدأت الإنسانية في التراجع، وذلك يقودنا إلى موضوع مهم هو الابتكار الاجتماعي. اليوم هناك 54 مدينة من هذا الصنف من المدن العملاقة. ومع اتجاه سكان الأرض إلى رقم 10 مليارات، باتت المدن الكثيفة هي العلاج والدواء الشافي من علل الفقر والتلوث، وتجدر الملاحظة أنه يجب أن تلتقي شركات العالم اليوم مع احتياجات المجتمع بشكل يعد داعماً لحياة الأفراد وداعماً أيضاً لعملة الربح للشركات الكبرى، فاحتياجات المجتمع هي السوق الأول والمبرر الأساسي لكل عملية تطوير وإنتاج تحصل في مصانع العالم اليوم. ومع زيادة حجم المدن، تصبح وسائل النقل هي الخطوة الثانية في المدن الكبرى بعد توفير المعلومات، فهذه المعلومات موضوعها الرئيس هو عملية الحركة التي تجري داخل المدن، وبين المدن بعضها وبعض، وهذه الأهمية نجدها مقتبسه حتى في عالم الحواسيب اليوم، ففي العالم الرقمي يصبح معدّل النقل والازدحام واحداً من المعايير المهمة على مستوى الشبكات الحاسوبية أو مكونات الرقائق التقنية، مثل تلك المقارنة التي عقدها المخرج غودفري ريجيو في الفيلم الوثائقي المذهل الذي أُنتج عام 1982 بعنوان كويانسكاتسي. وكمثال، فالسؤال الذي طرحته هيتاشي في أحد إعلاناتها عن الابتكار الاجتماعي حول الافتراض الذي يسأله أحد الأطفال (ماذا لو كانت وسائل المواصلات في حركة دائمة لا تتوقف؟) لا يبدو أنه سؤال طفولي أو منتم إلى الخيال العلمي، إذ إنه يبدو أكثر حقيقة واقعية يجب أن تجد لها الشركات حلاً يضمن لها ولنا الاستمرارية في عالم اليوم. ومع تضخم حجم المدن ووسائل المواصلات، نعود للتساؤل الأول (كيف يمكن أن نعيش في المدن الكبيرة؟). إن سؤال الصحة هو سؤال الحياة ذاتها، فبجانب تطوير علوم طبية سليمة، هناك الحاجة الملحة لتطوير وسيلة حياة صحية قبل كل شيء، محاربة التلوث في المدن الكبيرة لها جانب مهم هو تحسين مستوى صحة الأفراد، الحديث منذ القرن التاسع عشر لم ينقطع عن احتواء المدينة على غابات خضراء بجانب غابات الحديد والإسمنت. فأفضل من الطبيب الماهر عدم الاعتماد على الطبيب بصورة أساسية، وإلا أصبحنا جميعاً مرضى في عنابر مشفى كبير، ولسنا بشراً يعيشون في عصر شديد التقدم، ويبشر بتسارع ربما يكون لا نهائياً في مستوى التقدم، وبالتالي في مستويات استعمارنا للأرض. ومثلما تقول شركة هيتاشي في إعلان لها عن الرعاية الصحية، فربما كان التشخيص يعادل في أهميته، أهمية خلق محيط صحي آمن، إن اكتشاف المرض ومحاولة علاجه في هذه المرحلة من التقدم العلمي التي يشهدها الإنسان أصبح أمراً غير مقبول ولا يمكن أن يستمر طويلاً، فطيلة التاريخ طمح الإنسان إلى منع الشر بدلاً من محاولته علاج الأمور بعد أن تكون فسدت بالفعل، فصراع الإنسان مع المرض يصور بدقة صراع الإنسان مع كل ما يتحدى استمراره على الأرض. لم يعد هناك بد من استغلال أكبر قدر ممكن من الابتكار الاجتماعي من أجل الحصول على مستقبل يحقق طموح البشر عبر العصور، المستقبل الذي بشّر به الفنانون والفلاسفة والأنبياء، القدرة الإنسانية التي أثبتت جدارتها حتى اليوم بأنها قادرة على خلق مستقبل تتغنّى به النجوم، فقط إن حاول كل فرد أن يبدع ويبتكر ما هو في صالح المجتمع، ما يخدم وجوده ووجود أسرته الإنسانية كلها على هذا الكوكب الأزرق الجميل، والذي قال عنه من قبل عالم الفلك الراحل كارل ساجان «الوطن الوحيد الذي عرفناه».