الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

عودة الحمائية

اعتبرت مديرة صندوق النقد الدولي كريستين لاغارد، تصعيد النبرة العدائية ضد حرية التجارة العالمية من أكبر التحديات التي تواجه الاقتصاد العالمي، مشيرة إلى أن التراجع عن الاتفاقات الموقعة والعودة إلى فرض رسوم جمركية وحواجز إدارية هو نوع من التدمير الذاتي. وتتضح هذه النبرة العدائية كأوضح ما يكون في خطاب المرشحين للرئاسة الأمريكية والرغبة التي عبر عنها غالبية البريطانيين في الانسحاب من عضوية الاتحاد الأوروبي خوفا على وظائفهم. وتعلو نبرة الخطاب المعادي لحرية التجارة الدولية في صناعات بعينها مثل الصلب والسيارات والإلكترونيات والأدوية بل وحتى في القطاع الزراعي. ويرسم الخطاب المعادي للتجارة الدولية صورة مشوهة للدور الذي تلعبه التجارة العالمية في الاقتصاد العالمي والاقتصاديات الوطنية، ورغم أن الخطاب العالمي تجاه التجارة الدولية لا يخلو من بعض جوانب الصواب، وبصفة خاصة فيما يتعلق بسوق العمل، إلا أن الحل لا يكمن في التراجع عن اتفاقات التجارة الحرة وإنما في تعديل السياسات لتوفير مزيدا من الحماية للعمال. ويترك الهجوم على التجارة العالمية انطباعا لدى العالم بان سباق التجارة الدولية لعبة يفوز بها فريق الرابحين على حساب فريق الخاسرين. وتتجاهل هذه الصورة المغلوطة أن الاقتصاد العالمي والتجارة الدولية وصلت إلى مرحلة من التطور تتيح مكانا للجميع وتخلق وضعا يجد فيه الجميع فرصة للفوز والنمو المستدام. ويغمض المنطق الحمائي عينيه عن الدور الذي تلعبه التجارة الدولية في التخصيص الكفء للموارد عبر تبادل الواردات والصادرات بين الدول والمناطق، فكل دولة تتخصص في إنتاج السلع والخدمات التي تتمتع فيها بميزة نسبية، وليس هناك أي منطق في أن تنتج دولة كافة السلع حتى ولو كانت تستطيع أن تستوردها بتكلفة أقل. ويركز الفريق المعادي للتجارة الحرة بصره فقط على العجز التجاري لإثبات صحة دعواه في الضرر الذي تلحقه التجارة العالمية، متجاهلا أن طبيعة عمل الشركة تختلف عن طبيعة عمل الشركة فالشركة لا تستطيع أن تزدهر طالما أنها تواصل الخسارة، والأمر ليس كذلك بالنسبة للدول فالكثير من الدول ولاسيما أستراليا التي تعاني من عجز في ميزانها التجاري منذ عدة عقود، ورغم ذلك تملك اقتصاد مزدهر. ويعجز المنطق الحمائي عن فهم أن عجز الميزان التجاري ليس حصيلة صافي الصادرات والواردات فقط، وإنما هو في النهاية حصيلة صافي الادخار المحلي وصافي الاستثمار المحلي، وطالما ظلت معدلات الادخار منخفضة ومعدلات الاستهلاك مرتفعة فان العجز التجاري سيظل موجود، حتى ولو تدفقت رؤؤس الأموال الأجنبية وارتفعت الصادرات وتقلصت الواردات. ولا تحتاج الدولة التي ترغب في تصحيح ميزانها التجاري، إلى تقليل كمية الأصول التي تشتريها رؤؤس الأموال الأجنبية فقط، بل يتعين عليها أيضاً رفع معدل الادخار وخفض معدل الاستهلاك، وهذا بدوره يحتاج إلى تعديل النظام الضريبي لتشجيع الادخار وكبح جماح الاستهلاك. وحتى فيما يتعلق بخسارة الوظائف وهي النقطة التي يعزف عليها المرشحون المعادون لحرية التجارة العالمية، عبر تسليط الأضواء على أن الوظائف الضائعة نتيجة الواردات أكبر كثير من أية مكاسب تتحقق نتيجة زيادة الصادرات، تتجاهل أن العجز التجاري يزداد عادة عندما ينمو الاقتصاد ويخلق مزيدا من الوظائف، ويتقلص عندما ينكمش الاقتصاد وتتلاشي الوظائف. العداء للتجارة الحرة ورقة رابحة في المزايدات الانتخابية إلقاء اللوم على الدول الأخرى وتحمليها مسؤولية الأزمات الاقتصادية تقليد سياسي وانتخابي راسخ في العديد من الدول،ولكن شراسة الهجوم من كافة شرائح الطيف السياسي يجعل الحقائق الاقتصادية والتجارية الضحية الأولى لهذه الحرب. ويعطي إحجام الكونجرس الأمريكي عن التصديق على اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادي حتى الآن، مؤشرا خطرا عن إمكانية التراجع عن الاتفاق، ما يدشن مرحلة جديدة للتراجع عن الدور الريادي الأمريكي في التجارة الدولية والعودة إلى الانكفاء داخل القلعة الأمريكية. فعلى سبيل المثال صوت الرئيس باراك اوباما ضد اتفاق التجارة الحرة في أمريكا الوسطي عندما كان نائبا في مجلس الشيوخ، وانتقد اتفاق التجارة الحرة في أمريكا الشمالية عندما خاص انتخابات الرئاسة الأمريكية، ولكنه عندما صار رئيسا أصبح من أكبر أنصار اتفاق الشراكة عبر الهادي والذي يضم في عضويته 11 دولة. وعلى الرغم من وجاهة هذا الرأي إلا أن حدة العداء تجاه التجارة الحرة في سباق الانتخابات الرئاسية الأمريكية وصلت إلى مستويات غير مسبوقة في التاريخ، وهناك إجماع عليها من كافة المرشحين فالمرشح الديمقراطي بيرني ساندرز جعل التخلص من كوارث اتفاقيات التجارة الحرة حجر الزاوية في حملته الانتخابية لأنها على حد قوله تسرق الوظائف الأمريكية وتضر بالطبقة الوسطى. ويتهم المرشح الجمهوري دونالد ترامب يتهم الصين واليابان بإجهاض الاقتصاد الأمريكي نتيجة اتفاقيات التجارة الحرة السيئة التي عقدها المفاوضون الأغبياء. وحتى المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون التي أيدت أتفاق الشراكة عبر الهادي عندما كانت وزيرة للخارجية، انضمت الآن إلى الجوقة المعارضة للاتفاق. الطبقة الوسطى تدفع ثمن فشل تحفيز النمو الاقتصادي فند علماء الاقتصاد وبصفة خاصة آدم سميث الكثير من المغالطات المتعلقة بالتجارة الدولية منذ أكثر من قرنين من الزمن، إلا أنها عادت لتطل من جديد نتيجة عجز صناع السياسة عن تحفيز النمو الاقتصادي رغم استنفاذ كافة خيارات السياسات النقدية، بما في ذلك تطبيق سياسات سعر الفائدة الصفرية والسلبية. ويؤكد المحللون الاقتصاديون أن المشاكل التي تعاني منها دولة مثل الولايات المتحدة لاترجع إلى التجارة الحرة بقدر ذاتها وإنما إلي البنيان الاقتصادي الأمريكي، الذي لم يعد يسمح كما كان في الماضي للطبقة العمالية منخفضة المهارة بتسلق سلم الترقي الاجتماعي وصولا إلى الطبقة الوسطى. وانخفض العجز التجاري الأمريكي على سبيل المثال من 5.8 في المئة من إجمالي الناتج المحلي في عام 2006 إلى 3.7 في المئة فقط في عام 2009، ومع ذلك واصل الاقتصاد الأمريكي نزيف خسارة الوظائف. ورغم أن عجز الميزان التجاري الأمريكي ظل ثابتا على مدى سبعة أعوام عند مستوى ثلاثة في المئة من إجمالي الناتج المحلي، إلا أن معدل التوظيف ظل دون خمسة في المئة، فيما تراوح معدل النمو الاقتصادي بين 1.2 و 1.5 في المئة. وتمثل اليابان حالة خاصة في إثبات عدم أهمية فائض الميزان التجاري فعلى مدى ثلاثة عقود حققت فائضا كبيرا في ميزانها التجاري ومع ذلك عانى الاقتصاد من ركود مزمن في تلك الفترة. العمال يرزحون تحت وطأة الديون تتناقض استطلاعات الرأي التي تؤكد شعبية التجارة الحرة مع الخطاب العدائي للتجارة الحرة فقد أظهر استطلاع للرأي أجراه معهد جالوب في عام 2016 أن 58 في المئة من الأمريكيين ينظرون إلى التجارة الحرة باعتبارها فرصة للنمو الاقتصادي، مقارنة مع نسبة 38 في المئة من المشاركين في الاستطلاع يرون إليها باعتبارها تهديد. والسؤال الذي يطرح نفسه هو لماذا تتصاعد أذن النعرات المعادية للتجارة الدولية، والإجابة ببساطة تعود إلى أن الكثير من العمال مازالوا يعانون من آثار الركود الاقتصادي الذي فجرته الأزمة المالية العالمية في عام 2008 والتي تركت العديد من العمال بلا وظائف ومستويات مديونية مرتفعة. وفي الوقت الذي أسرعت فيه الحكومات إلى تقديم حزم سخية من المساعدات المالية لإنقاذ المؤسسات المالية من الإفلاس نتيجة الركود، لم يقدم أحد أي نوع من المساعدات إلى الطبقات محدودة الدخل، والتي تعد الأكثر تضررا من الركود. وفي الفترة بين عامي 2007 و2009 فقدت الولايات المتحدة نحو تسعة ملايين وظيفة ما رفع معدل البطالة إلى عشرة في المئة. البحث عن كبش فداء تراجعت مسيرة العولمة في السنوات القليلة الماضية وتتوقع منظمة التجارة العالمية أن تنمو التجارة العالمية بنسبة 2.8 في المئة في عام 2016، وهو العام الخامس على التوالي الذي تنمو فيه التجارة العالمية بمعدل يقل عن ثلاثة في المئة، مقارنة مع العقديين الماضيين، ورغم ذلك مازال نزيف الوظائف مستمر، ومازال تأكل الطبقة الوسطى متواصل. ويقتضي ذلك البحث عن سبب أخر مقنع لتفسير ما يحدث بدلا من اتهام التجارة العالمية دون دليل. ويرى المحللون أن التكنولوجيا هي المتهم الرئيسي فالأتمتة تؤدي إلى زيادة الإنتاج وتخفيض التكلفة ولكنها فغي الوقت نفسه تلفي العديد من الوظائف التي تشغلها الطبقة الوسطى.وتظهر دراسة آجراها معهد الأبحاث الاقتصادية في جامعة بال أن الأتمتة مسئولة عن نسبة 85 في المئة من إجمالي الوظائف الملغاة في القطاع الصناعي عامي 2000 و2010، رغم أن معدل البطالة في القطاع أنخفض في تلك الفترة إلى 5.6 مليون وظيفة.وبحسب الدراسة فان نسبة 13 في المئة فقط من إجمال الوظائف الملغاة في القطاع الصناعي تعود إلى التجارة، وتختلف هذه النسبة من قطاع إلى أخر فعلي سبيل المثال ترتفع هذه النسبة في قطاع الأثاث والملبوسات إلى 40 في المئة.