الخميس - 25 أبريل 2024
الخميس - 25 أبريل 2024

خطباءُ مفوّهون

الخطيب المُفوَّه هو الذي يأسر الألبابَ، ببراعته في انتقاء العبارات المُلهمة الرّنانة، التي تُلهب المشاعر، وتحرِّك الأحاسيس، وتأخذ بيد الجماهير إلى حيثُ يريد الخطيب. وقد مرّ في التاريخ الإنسانيِّ خطباءُ، مازالوا في ذاكرة الملايين، فمنهم قس بن ساعدة الإيادي، الذي رآه النبيُّ صلى الله عليه وسلم يخطب في سوق عكاظ، على جمل أحمر وكان من أبين الخطباء، وله الخطبة المشهورة في كتب التراث الإسلامي والتي مطلعها: «أيها الناس، اسمعوا وعوا من عاش مات، ومن مات فات وكلُّ ماهو آت آت، إن في السماء لخبراً ، ليل داج، وسماء ذاتُ أبراج، ونجومٌ تزهر، وبحارٌ تزخر» إلى آخر ما في الخطبة من العبارات البليغة التي تتسلل إلى شغاف القلوب، ومن الخطباء الذين خلّدهم التاريخ، الحجّاج بن يوسف الثقفي الذي خطب الخطبَ المعروفةَ في أهل العراق، ومنها خطبتُه في دَيْر الجماجم، عندما انهزم القراء في الموقعة المشهورة هناك، وأنا معطيك شيءٌ منها؛ لتستأنسَ ببلاغتها، وتنتشيَ ببيانها، الذي يُحرِّك الجلمودَ من الصخر، وتنفعل له الأسماع، وترتاح له الأعضاء، كيف لا وهي فصاحة الأعراب وبلاغة العرب التي نزل بها محكم التنزيل، فذلّت له أعناق المكذبين، ولنعود إلى الحجاج كرةً أخرى، يقول بعد أن أسكرته نشوةُ الظَفَر: «يا أهل العراق، إن الشيطان قد استبطنكم، فخالط اللّحم والدّم، والعصب والمسامع والأطراف والأعضاء والشِّغاف ثم أفضى إلى الأمخاخ والأصماخ، ثم ارتفع فعشش ثم باض وفرّخ، فحشاكم نفاقاً وشقاقاً» .. إلى أن قال «يوم الزاوية وما يوم الزاوية، به كان فشلكم وتخاذلكم، إذْ ولّيتم كالإبل الشوارد إلى أوطانها النوازع إلى أعطانها». وبعيداً عن السرد التاريخي، نتذاكر خطبة رأسِ المعتزلة وكهفِها واصلِ بن عطاء، والذي كانت به لُثغة في لسانه عند نطق حرف الراء، فاستطاع أن يتخلص من المفردات التي فيها حرف الراء بالرغم من أنها كانت ارتجالاً، وكانت الخطبة طويلة إلّا أن اقتداره بالبيان ذلّل له صعاب القول، لِتدوّن في دواوين الأدب والتاريخ وتدرسَها الأجيال. تعالوا معي إلى خطيب مِصْقعٍ آخر، وقائدٍ من قادة بني أمية خالد بن عبدالله القسري، والي العراقين، يقول عندما سُئل عن براعته في الخطابة «حفظت ألف خطبة للأصلع، فغاضت ثم فاضت» والأصلع هو علي بن أبي طالب، وهذا يعطينا طريقة لصناعة الخطيب أو المتكلم البارع، فصناعة الكلمة ترتكز على عدة عوامل، من أهمها، حفظ القرآن الكريم وجوامع الكلم التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم أفصح من نطق الضاد، وكذلك حفظ خطب الأقدمين وتقفي آثارهم الأدبية التي تزخر بها أمّهات كتب الأدب. وكانت العرب تفخر بالمنابر ولهم حالات تميزهم عن بقية الأمم أثناء الخطب منها، حمل العصا، واتّخاذ المخاصر يقول العُتبي الأموي الشاعر: فإنّيَ من قومٍ كرامٍ أصولهم لأقدامهم صيغت رؤوس المنابرِ