السبت - 27 أبريل 2024
السبت - 27 أبريل 2024

الحاكم بأمره

وحدهم أصحاب الرسالات الخالدة لا يموتون، هم بيننا بأفكارهم التي تحوم كمثل طائر يُسمَع دوي صوته على عتبات السماء ومقولاتهم تتناقل فتشُق حروفهم الزوايا الغابرة لتعمر قيم أخلاقية ولتشيد مباني قوامها المساواة بين البشر، فهل يموت من بقيَ لسانه حياً؟ ميزة العظماء أنهم أحياء في معاني كلماتهم. رحل مانديلا فضجّ العالم ليفتح باب الذكريات من جديد، وخرج الرثاء متبوعاً بدموع مريديه، وملئت القنوات بمشاهد تبين كم أن الحياة صغيرة، فموقف واحد ومسيرة قد تجعلك بطلاً غرسُك ثابت في أحشاء التاريخ، فلا نسيان في وجه من نقش اسمه على أحجار الدنيا. لا أسوء من شخص يوزع صكوك مصائر الناس وينصب نفسه الحاكم بأمره. انشغل البعض بالتنبيش في مصير مانديلا وجواز الترحم عليه، وكأنّها قضيّة جوهريّة تنسف جهود الرجل في دنياه، مانديلا رحل وما علينا إلا ظاهرهُ في الدنيا، وأما الأمور الغيبيّة فهي بينه وبين خالقه يتولاه كيفما شاء، فسيرة البشر في الدنيا هي ملك أحبابهم وأما مصائرهم فهي من ملك ربهم، يتمنى البعض لو بيده مفاتيح جهنم حتى يلقي بالناس إليها متناسياً أن رحمة الله تسع كل شيء. بعض القلوب كالكهوف الفارغة ليس بها شيء ولا تردد سوى صدى شخص آخر. مؤسف أن تتحول قضايا الغيب إلى صراع تقاتُل فنتناسى أن العبرة تكمن بالاستفادة من نهجهم وما نضحت به مواقفهم من خير يسمو على الجميع وفي مسافة متساوية من الأديان، فمانديلا لم يُضفِ على نفسه قدسية بل جاء ليصدح أمام العالم كله بصرخة العدالة والحرية. هناك من يشوه لباس التدين بتنفير الناس منه. في صحيح البخاري ورد أن سهل بن حنيف وقيس بن سعد ذكرا للرسول صلى الله عليه وسلم أنّ جنازة مرت بهما، فقيل لهما إنها جنازة يهودي فردّ عليهما رسول الرّحمة فقال «أليست نفساً». إن تعاليم ديننا تُشدّد على أن البشر على اختلاف أديانهم تجمعُهم صلة البشريّة والرحمة، فأين نحن عن هذا الحديث الصحيح وأين هؤلاء قبل التمادي في إلقاء الأحكام عن التعمُّق في قصص وعبر غيبت عن عقولهم. القضيّة ليست في الترحّم كونها قضية فقهية لستُ أهلاً للإفتاء فيها ولكن المشكلة أن نحاول طمس تاريخ إنسان لمجرد اختلافه في العقيدة. فلا تقتلوا الرّحمة باسم دين الرّحمة. [email protected]