الخميس - 02 مايو 2024
الخميس - 02 مايو 2024

الوجه المنسي

قبل سنوات رصدت إحدى القنوات الفضائية كل طاقاتها للبحث عن عبدالحليم حافظ .. عن شخص يطابقه إلى درجة كبيرة من أجل عمل متلفز يعرض حياة عبدالحليم حافظ على حلقات، كان الجميع مشاركاً بدرجة أو بأخرى في ذلك البحث ومن بين عدد من الوجوه التي عبرت خرج وجه واحد يكاد يطابق العندليب في شكله الظاهري إلى درجة التطابق المنشودة .. فهل كانت الروح حاضرة في ذلك الاختيار أيضاً؟ في الواقع عرض العمل في وقت لاحق بعد انقضاء البرنامج بفترة .. كان متقناً في تركيزه البصري على المؤثرات كافة التي ستقودك إلى فكرة أنك تجلس في حضرة العندليب نفسه .. طفلاً فشاباً ثم ما يعقب ذلك من تفاعلات وأحداث يحفظها الكثر في سيرة لا تمر بسهولة إلا أن شيئاً ما بقي مغلفاً بشعور أن الأمر في رمته لا يغدو كونه تقمصاً متقناً للشخصية دون أي خطأ واضح، لم يحدث ذلك التفاعل المتوقع بين المتابع للعمل وبين العندليب في سيرته تلك .. كانت السيرة المكتوبة أو المسموعة أكثر صدقاً وواقعية لدى كثر فاكتفوا بها في ذاكرتهم بينما ذهب العاملون على العمل الفني إلى تقديم مبررات كثيرة ذهبت في أغلبها إلى فكرة ضعف السيناريو الخاص بالعمل نفسه مما جعل المشاهد ينصرف إلى فكرة أن من يقف أمامه مجرد مؤد يقدم دور حليم. بالتزامن مع تلك الفترة عرض عمل آخر يتناول سيرة عبدالحليم حافظ لكنه كان عملاً سينمائياً هذه المرة جسده الراحل أحمد زكي الذي كان يتناول العمل كآخر ما يتمناه الرجل على فراش مرضه الأخير. والأمنية الهاجس لرجل كأحمد زكي انسجمت مع ما كرس له الأخير مختلف الفترات المهمة من حياته، لقد أراد أن يقدم شخصية حليم بكل لحظات الضوء والظل فيها. على الجانب البصري لم يكن هناك أي تطابق قد يذكر في الشكل بين حليم وزكي، وأظن أن زكي كان واضحاً نوعاً ما في ذلك، فكان زكي الذي يجسد حليم وليس زكي الذي يتقمص حليم .. كانت معضلة بحد ذاتها أن يحافظ زكي على حضوره الخاص على الشاشة كممثل لا مؤد للدور فقط دون أن يضعف تلك الهالة المأساوية المحيطة بحافظ نفسه وحضوره إلى جانب تلك الهالة المتدفقة بالضوء من موسيقاه، بينهما لم يكن هناك إلا خيط رفيع يربطهما بشكل سطحي وهو الفن إلا أن الوجه المنسي الآخر كان الألم في قمة حضوره، المأساة في بعدها الأكثر تجلياً والتعب. فالذي يتتبع العمل يشعر بوجع زكي وإرهاقه حاضراً بفعل المرض، وعلى الرغم من كونه لم يقم بتقديم الجزء الأكبر من العمل لأن المرض ذاته لم يمهله حينها إلا أن مشاهده جاءت بقدر كبير من التأثير في الملتقي التأثير الذي يبدأ معه بسؤال الصدمة: هل يشاهد أحمد زكي أم حليم؟ وينتهي إلى كونه يتابع سيرة التعب والألم في كليهما، تجليات بريق تحقيق الحلم في عيني كليهما، الروح التي تشاركاها .. روح الوجع الإنساني الصرفة التي أخذتني لأتساءل؟ .. هل كنا لنتألم على تلك الشاكلة لو أن زكي قد قدم العمل في فترة سابقة؟ يصعب الجزم بالتأكيد .. لكن الألم من وجهة نظري يحسم الإجابة ناحية أنها كانت الفترة المناسبة لسبب أو لآخر .. وزكي يسدل ستار التعب في ما يتقاطع مع تلك اللحظات التي أسدل فيها حليم ستار مأساة مرض لازمه طويلاً ولفه بالمأساة الغامضة. لعل أكثر لحظات التقاطع تلك تجلت في مشهد العندليب على فراش مرضه وهو يخاطب الشاعر السوري نزار قباني مستأذناً منه بأن يغني قارئة الفنجان، البطل في ذلك المشهد كان شغفهما الأخير ووجعهما زكي وحليم .. كانا يتماهيان مع فكرة أن تكرس كل حياته وليس الجزء الأكبر منها فقط لشغف وحيد وأصيل. لا يكفي أن تشبه النجمة حتى تشع وإن كنت مصقول الأوجه، لا يكفي أن تسعد بكلمات الإطراء الصادقة أو غيرها التي تشبهك بأحد الأسماء اللامعة هنا أو هناك، عليك أن تحظى بالروح اللازمة لتكون النجمة بحد ذاتها .. وبالطاقة اللازمة لتكون اسماً بحد ذاتك، وبالشجاعة الكافية لتتحسس مواضع الألم وتعترف بالوجع كإنسان ليتقبلك إنسان يشبهك في مكان ما من العالم يتشارك معك وجعك بصدق. [email protected]