الجمعة - 26 أبريل 2024
الجمعة - 26 أبريل 2024

فلسفة منذ الطفولة

اعتُبرت الفلسفة لزمن نوعاً من الثرثرة الفائضة عن الحاجة والجدل الذي لا طائل من ورائه، ولهذا تراجع مفهومها في الثقافة الجماهيرية العربية حتى أورثها التعطيل واستحالت لكيان نادر. لاحظ بأن الأمر تجاوز حتى إلى التطاول كسلوك جماعي على من يختار أن يتكلم ويشرح ويخوض النقاشات ومعاقبته بمنحه وصف «متفلسف» والترصد لأغراضه بإيجازها في لفت الأنظار وإطلاق كل ما هو غريب وغير شائع، ولهذا يلزم معتنقها أن «يترك عنه الفلسفة» كأن الأمر نوع من الشتيمة لفرط نشاط غير محمود لا بد أن يتخلص منه صاحبه ما أمكن. إذاً، ومنذ الصغر فهناك تباعد عن الممارسة الفلسفية بما تتضمنه من تحليل المفاهيم أو تطويرها والحوار والمحاكمة المنطقية والبحث الإنساني، حيث تكون الأسئلة الحيوية والجوهرية مطروحة دائماً لمخاطبة العقل وملكاته الفكرية الحيوية، لم تتلق الفلسفة في العالم العربي الاستجابة الإنسانية اللازمة إلا ربما أخيراً وفي بعض الدول وليست جميعها، ومن أجل هذا التأخر كان هناك وقت كافٍ لتشكُّل صورة نمطية سائدة عنها بأنها خليط من التعالي الكهنوتي الذي لا يصح، هذا غير وضعها موضع ارتياب وحصار بتهديدها لكيانات بعض الثوابت الدينية أو السياسية، والحرص على تقبيحها منعاً للتداول من هاتين الناحيتين على وجه الخصوص، رغم أبعاد الفلسفة التربوية المهمة والعميقة والتي لا تُختزل في هذه النقاط وحدها. يمكن معالجة أزمة المفهوم الفلسفي وإعادته إلى سياقه الأصلي بدءاً من الطفولة، فالواقع يحكي بأن الفلسفة ليست أعمالاً حصرية للكبار، وتعلُّم ممارسة الفلسفة وتوظيف مقولاتها ومنطقها ورؤاها ومنهجها في حياتنا الفكرية لا علاقة له بتفاوت المراحل العمرية، كان مونتيني يؤمن بأن المرء لا يمكن أن يكون صغيراً لدرجة أنه لا يستطيع ممارسة الفلسفة، وبإمكان الأطفال أن يمارسوها ممارسة ذهنية غير مشروطة بتعلم الفلسفة كنظريات وعلم (منهج)، وإنما بتعلمها كتطبيق وفعل. لا بد من توافر معلم مثلاً يحرض الطفل على التأمل والتساؤل ومعالجة الأفكار من خلال عدد من النصوص في حوار مفتوح مع أطفال مثله على ألا يقدم المعلم إجابات جاهزة، ويتم فيها تعويد الطفل على احترام وجهات النظر الأخرى على تلك المادة الفكرية مهما تباينت، وعندها سينشأ الطفل في جو فلسفي يؤهله في ما بعد لتناول الفلسفة كمنهج صحيح. لقد كان سقراط وليبمان وكانط جميعهم يؤكدون أن الفلسفة قابلة للتعلم، لكن بوصفها تطبيقاً وسلوكاً، لأن الفلسفة كعلم لم تصل إلى مرحلة اكتمال بعد وهي تتطور كبناء أفقي من الممكن فيها أن تنسف ما قبلها وتؤسس لحالة معرفية جديدة، لكن تتفق الفلسفة مهما تغيرت وتطورت على أن القيمة الأصلية للممارسة الفلسفية تكون في عدم الاعتقاد باليقين المطلق للمعرفة وبإثارة التساؤلات واحترام وجهات النظر، وهذه القيمة بالذات يسهل نقلها للأطفال والأخذ عليها كسلوك دائم لهم.