الجمعة - 26 أبريل 2024
الجمعة - 26 أبريل 2024

خوف أو خجل

«ما إن وقف أمام المرآة ليكمل لف كوفيته، انعكست صورة لمومياء، هكذا هو شكله مع أنه لم يتجاوز الخامسة والخمسين، ولكنه يحمل التاريخ في تضاريس بشرته» تلك هي صفات أبو فادي الشخصية التي نطالعها في رواية (مخطوطات الخواجه أنطوان) للكاتبة الإماراتية فاطمة عبدالله، وهي تسبر التاريخ في تضاريس وجه كهل فلسطيني يتوه من شتات إلى شتات. نجد من خلال الوصف المباشر لأبي فادي، أن اسمه خليل (وكنيته من اسم أبيه فادي المغربي). ويتضح من لباسه وشكله وتصرفاته أنه فلسطيني، في الخامسة والخمسين من عمره، يعمل خادماً في قصر الخواجه أنطوان، التجاعيد في وجهه أكبر شاهد على معاناة هذا الكهل الفلسطيني، يشعر بالغربة والخوف والضياع. يصفه الخواجة أنطوان مرة بالخجول، (يسأل نفسه عن سبب خجل خادمه الذي مضت عليه خمس سنوات، ولا يزال يتصرف في خجل كأن اليوم يومه الأول). من دون أن يعلم أبداً أن هذا الخجل ما هو إلا شكل من أشكال الخوف من الآخر وآلية للدفاع يفسرها الخواجة «إنه حزين، فقد سئم التغيير، وكل مرة يبدأ حياته من مكان جديد من دون أن يكون له مرجع أساس يعود إليه». لا مكان لأبي فادي يعود إليه، ولا مكان يستقبله سوى الموت. يحدث أبو فادي نفسه غير مرة، فيقول «لماذا الإنجاب والمولود لا وطن له» تتصاعد الحالة في ذهنه وتتحول سخطاً، فيردد «كم أنا جبان لم أحاول ولو مرة الإسهام في استرجاع كياني وتحقيق ذاتي، حتى النساء كن أشجع مني في رفض الوضع وإنجاب المجاهدين أما أنا فلا شيء، مجرد واحد احتفظ بالحياة وعاشها ذليلاً، لكنه نعت بشجاع». ملامح شخصية أبي فادي المرتبكة الخائفة تظهر بوضوح على كل تصرفاته، فهو الناجي الوحيد من المجزرة التي ذهبت بكل عائلته، وما يقرب من 3500 شخص آخر، فكان نتيجة ذلك أن نشأ داخله حاجز يمنعه من الاقتراب من الآخرين، ذاك الحاجز الذي اعتبره الخواجة أنطوان خجلاً. تورد فاطمة عبدالله أن أبي فادي من مواليد لبنان، لكنه لم يشعر يوماً أن لبنان بلده، شعر بالغربة والخوف دائماً، يمضي وفي جيبه مسدس، خشية على نفسه وحياته، يقول بصوت مرتفع أمام الجميع بعد أن أطلق الرصاص على رجل الكنيسة الذي حاول قتله: لا يوجد فلسطيني لا يحمل سلاحاً في لبنان، ومن سيدافع عنا. الخطر إحساس يرافقه دائماً نابع من ضياع هويته على يد اليهود، ومن ثم قطع كل جذوره وروابطه بأسرته الصغيرة ومواطنيه، في مذبحة إبان الحرب الأهلية اللبنانية جعلته وحيداً على أرض ولد ونشأ وعاش فيها وما زال يحمل وثيقة لا تخوله العودة أو الدخول للوطن الأصل (فلسطين) ولا تمنحه حقوق الوطن الجديد والانتماء إليه). أهو خجل حقاً أم خوف أم لا انتماء أم رفض ما يعيشه أبو فادي، ويعيشه الفلسطينيون النازحون من سوريا إلى لبنان إلى مجاهل البحر الأبيض المتوسط. معاناة أبي فادي كمعاناة أولئك النازحين مع هويته وتشظي ذاته مضاعفة، فلم يكن مرتبطاً بمكان، لكونه فقد الوطن، ولم يكن مقترناً بمجموعة تحميه وتدافع عنه، تعطيه بعداً زمانياً يتصل به. هو شعور التائه المنقطع عن الأصل، فلا شيء يتكئ عليه، ولم يكن هناك ما يربطه بأصله وهويته التي يعدها لعنة حلت به سوى كوفيته وذكريات التهجير والشتات، يقول له الأب منصور، وهو في مواجهته لقتله: لعنك الله، فيجيبه أبو فادي مستهزئاً: أكثر من كوني فلسطينياً، فهل هناك صورة للشتات خوفاً أو خجلاً أكثر من الصورة التي رسمتها فاطمة عبدالله قبل بداية النزيف السوري بزمن؟ [email protected]