الجمعة - 26 أبريل 2024
الجمعة - 26 أبريل 2024

الفئران الآتية والدرويش المشتاق

كل قارىء يتلقف أي كتاب سردي يقدم شخوصاً وأمكنه وحيوات، باحثاً عن نفسه بشكل ضمني .. وكل كتاب ينجح في تدعيم فكرة بحث القارئ عن شكله العام، رغم خصوصية الفكرة المقدمة فيه .. هو كتاب للذاكرة. فالأعمال تلك لا تكتب للعوام قاصدة إياهم بشكل مباشر، بقدر ما تنسج من الخاص جداً الذي تعرضه، أسئلة قد ترعب، قد تجذب، قد تبهج أو قد تؤلم ذلك الآخر الذي يقرأ من أي مكان كان .. هي الأعمال التي كتبت لتبقى .. وبقاؤها مرهون بكل وعي تشعل فيه الضوء بعد كل قراءة، ومدى ملاءمتها لأزمنة وأمكنة عدة، كما يؤكد تاريخ السرد. في «شوق الدرويش» رواية الكاتب السوداني حمور زيادة المرشحة لبوكر 2015، أنت تعود بالزمن إلى ما قبل 1894 .. تدخل في صلب معاناة قد تكون بعيداً عنها شعورياً، زمنياً، وجسدياً .. تلفك الأسئلة التي يطرحها حول الحرية والمعتقد، حول العقول التي تمارس كراهيتها المستعرة، باسم الحب حول معنى الانتقام في وسط خرائب متكاثفة وغيرها، عندما ينطلق بطله متجلياً في حبه كالدرويش لكنه في رقصة التجلي خاصته، لا يرتفع بيديه مرتكزاً على السماء كما يدور دراويش المتصوفة، بل يندفع بسهمه في انتقام، يريق دم من أراقوا دم الفتاة التي أحب. الفتاة التي وجدت له الإجابة أخيراً رغم كل الاختلافات المتجذرة بينهما من دين وعرق وشكل حضاري. الاختلافات التي كرسها البشر وعمدوها بالكراهية، تسقط أخيراً أمام أسئلة الحب الصافية وجدوى هذه الفوضى المستعرة، من استعباد وحروب ودماء .. في حدث خاص جداً يتوازى مع فترة زمنية غامضة في السودان، وذلك أثناء فترة الثورة المهدية التي بدأت في 1894 من القرن المنصرم. لكنك أنت البعيد هنا، في زمنك ومكانك تقلق وترتبك من صور متكررة للمنادين بالكراهية تحت أي حجة، والمكرسين لصور طمس الحضارة .. تطرح مع زيادة الأسئلة الحساسة حول جدوى ما حدث ويحدث، منتشياً بأسئلة الحب، ومتجذراً في تكسير الحواجز .. لقد شاركت في العمل بامتياز، رغم أنك قد تضيق أحياناً من تفخيم لغة الدرويش العاشق رغم جمالها، أو من إعادة بعض الأحداث، في عود بالزمن بأكثر من وجه لذاكرة الشخصيات، الأمر الذي يشتتك أحياناً. أما في «فئران أمي حصة»، لكاتبها الكويتي سعود السنعوسي، فالعود للخاص في ما يقدمه من تاريخ الكويت الحديث .. يبعثر حنيناً مربكاً دائماً لأي خليجي عايش الفترة ذاتها، التي تبدأ من 1980 تقريباً وتمتد إلى ما يكرسه الكاتب بخياله إلى 2020، حيث الخاص جداً هو في نسيج المجتمع الكويتي المتنوع، الذي تحول تنوعه لنقمة متى ما انفلتت الكراهية .. تلك التي كانت تنضج على نار هادئة قوامها التلاعب بالوعي الجمعي للمجتمع، وهو الأمر الذي صنع دمى كانت تتخشب تدريجياً، في طريقها لذلك الاحتراق العظيم .. ذاكرة معتدة بطفولتها وحكايات الجدات وبساطة التنوع الأول، يخنقها حاضر قلق، ومستقبل متخيل ينفجر كصرخة، في تصوير لحرب «أهلية ـ طائفية» تدمر فيما تدمر، كل وعي وكل مجهودات وكل حضارة، كرستها الكويت الرائدة منذ ثلاثينات القرن العشرين، بوعي أهلها أولاً وقبل أي شيء، يقصيهم من المشهد النهضوي بكافة روافده، متلاعباً بأهوائهم ومشعلاً جذوتها. تلك الصرخة تخرج من خصوصية الكويت إلى المحيط العام، لتشير إلى كل نماذج الاستقطاب «أياً كانت» مما يحاك تحت أي مسمى «دين ـ وطن ـ قضية» وليجعلك ترتاب .. تشك .. تسأل .. تتحسس وعيك وتنفضه .. تحاول أن تقابل الآخر بعيون حرة، وقلب يتوجب رغم كل إرث أسود، أن يبقى حراً قبل أن تشتعل فيه وما حوله النيران، قد تقف حائراً أخيراً أمام نهاية العمل بسؤاله المعلق «وين رايحين؟» .. متسائلاً هل حبك مشهد الختام كما يجب؟ وقد يخرجك النمط السردي أحياناً من حالة الانغماس لتكراره بعض الحالات الشعورية للشخوص، ما يجعلك تسارع إلى الفصل الذي يليه .. لكنك حتماً تفوت الكثير إن لم تصل للصفحة الأخيرة من العمل لأنك تفوت شراكاتك الشعورية في طرح الأسئلة ومحاولة تأملها لاحقاً وتشكيل جزء مهم من وعيك. يتبقى أخيراً أن يقال: الكراهية التي تأتي تحت أي ذريعة تحول الناس إلى مجرد دمى .. الوعي يمنحهم قوة المجابهة .. الحب يحررهم. [email protected]