الجمعة - 26 أبريل 2024
الجمعة - 26 أبريل 2024

المسودة رقم 408

تبدو الأضواء التي تنير الشارع ومنازل الجيران خافتة جداً، ينتابني شعور غريب، لا يحدث هذا عادة، أظنه نظري، ربما لم يتسع بؤبؤا عيني كفاية، لمّا يتكيفا مع الظلام في الغرفة بعد، لا تتحسن الرؤية ولا يتغير شيء، ليستا عينيّ، لابد أنه الضباب. أحتاج بضع دقائق لأصحو تماماً، يساعدني الماء المندفع من الصنبور ببرودة شديدة، ثوان معدودة ويسخن، أنهي وضوئي وأخرج، أمشي حافية القدمين على الأرضية الباردة، ما زالت النافذة مغطاة بطبقة من قطرات الماء المكثف. لا أسمع سوى صوت المكيف ودقات قلبي في أذني اليمنى التي أضعها على الوسادة. لا أتذكر أياً من الأحلام التي رأيتها في الساعات الأربع التي قضيتها نائمة. هنالك حلم يقظة لا يفارقني، أراني في مكان بعيد مليء بالأشجار، بحيرة هادئة تتوسطه، وأنا أجلس على كرسي خشبي مرتدية «تنورة» صفراء وقميصاً أخضر داكناً. أفضل أحلام اليقظة لأنني أستطيع رسمها كيفما شئت، ودائماً أتذكرها. ألتقط هاتفي، أشغله، منذ سنوات وأنا أغلقه قبل النوم تفادياً لأن أصحو على اتصال في وقت متأخر، كنت سأضعه على الوضعية الصامتة لكن مجرد رؤية مكالمة فائتة في ساعة متأخرة سيكون كفيلاً بإثارة هلعي، وعلى الأرجح لن يرد الشخص الذي اتصل بي في تلك الساعة المتأخرة، ولن أتمكن من التفكير في أمور إيجابية حتى يردّ ويخبرني بأن الاتصال كان غلطة وهو يعتذر عليها. أمر على حساباتي، توتير، إنستغرام، فيسبوك، كيك، وآسك، لا شيء، ما الذي كنت أتوقعه وأنا معتزلة لا أكتب شيئاً ولا أتواصل مع أحد؟ تصلني رسالة على البريد، رسالة دعائية أحذفها دون قراءتها. أترك الهاتف، أتذكر منزلنا القديم، الغرفة البيضاء والأشجار التي تحيط به، شجرة الليمون التي تقابلني وأنا أتناول فطوري في صباحات أيام نهاية الأسبوع، خادمة جدتي وهي تطرق الباب، تستأذن للدخول إلى المطبخ لإيصال حصتنا من الفطائر التي بعثتها جارتنا وسأطلب منها في كل الحالات أن تترك الصحن أمامي على الطاولة. أتذكر أحلامي هناك، مكتبتي، سريري، أشياء أتمنى لو تعود لأعود كما كنت حين كانت تلك الأشياء حولي. أنقلب إلى جانبي الأيسر، مازلت أسمع نبضي، وأسمع ضربات الخادمة على الكراسي في غرفة الجلوس وهي تنفض عنها الغبار، أبقى على وضعيتي، لا يعود إلي النوم ولا أشعر برغبة في ترك السرير، أمد يدي نحو الهاتف، الساعة السادسة والنصف، لا أعرف إن كنت مستغرقاً في النوم أو أنك في الطريق إلى العمل تشعل أضواء سيارتك وتقود بحذر، كم كنت أكره أيام الإجازات التي كنت تذهب فيها إلى العمل، أنظر إلى الرسائل المخزنة في ذاكرة الهاتف، الهاتف الذي أضع فيه بطاقة لا أستخدمها، أحتفظ به لأنه كل ما تبقى من قصتنا التي انتهت قبل أن تكتمل، أكتب: في الطريق إلى العمل أم نائم؟ اشتقت إليك، اشتقت إلينا. لا أرسلها، أحفظها في ملف المسودات، المسودة رقم 408. شعر أبيض فبراير، كنت قد رجوته كشهر أن يكون لطيفاً معي، مرّ أكثر من نصفه ولا أثر للطف، أصحو في الوقت نفسه، قبل العاشرة بدقائق، ساعتي البيولوجية مثبتة على توقيتين، الخامسة والنصف والعاشرة إلا ربعاً، في أيام العمل التوقيت الثاني ملغى. حزينة لأن لا شيء عاد يدفعني للنهوض باكراً، ساعات اليوم جميعاً صارت متشابهة. الأيام تشبه بعضها، الأسابيع، الأشهر، السنوات، الوجوه متشابهة، والقصص التي يحكيها الآخرون، لا جديد، لا شيء يعد مميزاً، لا أحبني حين أنظر إلى الحياة بسوداوية، لا أحبني منذ بضع سنوات. جارتنا العقيم التي تؤوي نحو عشرين قطة مستاءة من عدم عودة قطتين إلى المنزل، تلوم زوجها على ذلك، أسمعهما يتبادلان الشتائم في حوش المنزل، يهيأ إلي أن صوتها يختنق، كأنها تبكي، كلب الجيران ينبح كل النهار، يقال ينبح الكلب حين يمر أمامه شيطان، أبتسم حين أتذكر الشياطين التي يقول جدي إنها تركب رأس زوجته الأخيرة. تزعجني الرائحة التي تطلقها الأجساد بعد مرور أكثر من أربع وعشرين ساعة على آخر حمام، أعرف أنها ستطاردني كل اليوم، سأشعر أنها تلتصق بي حتى إن كانت تفوح من جسد آخر، سأشعر برغبة ملحة في الاستحمام، ولن تفلح رغوة الاستحمام ولا عطر الجسم ولا العطر المركز الذي سأرشه لاحقاً في إزالة تلك الرائحة من أنفي، أرتدي الثياب التي استقريت عليها بعد تردد، أترك الحمام الخانق وأبقي رأسي المبلل مكشوفاً، تلفحني برودة الغرفة، أتجاهل العطسات المتتالية، لن أصاب بالبرد حتى سبتمبر المقبل. هذا ما اعتاد عليه جهاز مناعتي، الخريف هو فصل نزلات البرد. أقابل المرآة، مرت بضعة أشهر منذ ظهرت الشعيرات البيضاء في مقدمة رأسي، ثلاث شعرات قصيرة على الجانب الأيمن، حين يكون شعري مبللاً تبدو واضحة جداً، لا أحتاج لضوء ساطع لأتمكن من تحديد أماكنها، الأوضح طالت من جديد، أتناول المقص لأقصها، ألتقطها بصعوبة، تتجمد نظرتي، أفكر: هل كبرت كفاية ليتسلل البياض إلى مقدمة رأسي؟ أجيب عن سؤالي: كل الأمور التي أخشاها تحدث، الشعر الأبيض أحدها. أتذكر الطفلة التي شاهدتها منذ شهر في السوبرماركت، كانت جديلتها رمادية، رمقت الأم بنظرة متسائلة، لماذا تتركها هكذا؟ تجاهلت الأم نظرتي وأمرت الطفلة بأن تترك لوح الشوكولاتة. أبقى أحدق في المرآة، أسمع مواء ونباحاً، الجارة العاقر تنادي قططها، الساعة تشير إلى الثانية عشرة ظهراً، بعد الصلاة سنذهب إلى منزل جدي لتناول الغداء، سأقبله على رأسه الذي غزاه الشيب منذ سنوات طويلة، سأجلس بالقرب منه تفصل بيننا عصاه الخشبية، سأنظر إليه مبتسمة وهو ينهر الزوجة الشابة، سأفكر بأنها صغيرة جداً عليه ومسكينة، سيقول إن شياطين تركب رأسها حين ترد عليه بحدة، سنبقى حتى العصر، لاحقاً سأعود إلى غرفتي، إلى الجارة وقططها والكلب ونباحه اللامتوقف، إلى المرآة التي لم تعد تعرفني، إلى الحقيقة المخيفة التي اكتشفتها يمين مقدمة رأسي والتي أحاول أن أخفيها عن الجميع بمن فيهم أنا. ـ مدونة: لطيفة الحاج https://latifahaj.com