الجمعة - 26 أبريل 2024
الجمعة - 26 أبريل 2024

صاحب الزيني بركات يترجل

رحل الزيني بركات صاحب التجليات، الرفاعي وسفر الأسفار والمصائر وخلسات الكرى، بعد أن ترك لنا رسالة الصبابة والوجد حزناً على قلم مبدع مداده صدق وأصالة وبحث عن الحقيقة وجرأة في الجهر بها، وكلمات عطرة شديدة الخضرة منمنمة كخيوط السجاد يفوح منها الصدق. توقف قلب المبدع الروائي جمال الغيطاني ومعه توقف فيض إبداعه، ولكن مكانته ستظل في ذاكرة ووجدان الأمة وقلوب المثقفين ووجدان القابضين على الجمر المناهضين لكل قبح ورداءة وادعاء. رحل عاشق السجاد والقلم والتراث والوطن، المبدع الذي قاوم ولم يساوم، وقال لا في وجه من قالوا نعم، أحب البسطاء من أبناء الوطن وكتب لهم وخاض معاركه من أجلهم ليسهم في معركة الاستنارة والحقيقة ويعلي من قيم الحق والخير والجمال. غاب أبو محمد وماجدة، المبدع الغزّال الحكّاء قبل أن يحقق أمنيته المستحيلة «أن أمنح فرصة أخرى للعيش.. أن أولد من جديد لكن في ظروف مغايرة، أجيء مزوداً بتلك المعارف التي أكتسبها من وجودي الأول الموشك على النفاد.. أولد وأنا أعلم أن تلك النار تلسع، وهذا الماء يغرق فيه من لا يتقن العوم، وتلك النظرة تعني الود وتلك التحذير، وتلك تنبئ عن ضغينة. كم من أوقات أنفقتها لأدرك البديهيات، وما زلت أتهجى بعض مفردات الأبجدية». ومن المؤكد أنه سيولد من جديد ونتهجى معه مفردات الإبداع وصلابة المواقف والأصالة للأديب الذي كان الأبرز من بين جيل الستينات. كانت الكتابة بالنسبة للغيطاني متعة ومعاناة بحثاً عن الحقيقة وموقفاً يستحق أن يدفع من أجله الثمن. عارض كل مستبد طاغية، وجاهر برفضه حكم الإخوان أثناء حكمهم، ولم يندم على حرف كتبه لأنه كان يكتب بمداد القلب وعطر المحبة والصدق. ويعد الغيطاني صاحب تجربة متميزة في استلهام التراث الصوفي تأثر فيها بأستاذه الأديب الراحل نجيب محفوظ، ولكنه شق خطاً رائداً متفرداً، فاستعان بأفكار التصوف ومفرداته وحقائقه في رسم شخصياته الروائية مثل فكرة الرؤيا، الإبدال، الكرامة، العزلة، الانفراد، الخلاء، مقاومة الزمن، الاستبطان، البحث عن المعرفة والحقيقة فيما وراء الظاهر، الرؤية والحلم والمناجاة، البصيرة والوجد، المحبة، والاستئناس. وحضر محيي الدين بن عربي في نصوص وشخوص وتناص أعمال الغيطاني وخصوصاً التجليات بأجزائها الثلاثة. وفي روايته «دنا فتدلى» يروي سيرته الذاتية عبر القطار الذي تشعر أنه مشوار عمره بكل ما يمر عليه من محطات. وعالجت روايته الشهيرة «الزيني بركات» ظاهرة الاستبداد والقمع، وبرع في تصوير كبير البصاصين وأساليب الترهيب والتعذيب يسقطها على واقعه ليدلل على أن الاستبداد يستنسخ نفسه في كل مكان وزمان ما دامت أسبابه قائمة. ولد الغيطاني في جهينة بمحافظة سوهاج في 9 مايو 1945، والغريب أنه بدأ حياته رساماً بعد أن حصل على دبلوم والفنون والصنائع. والتحق بمؤسسة أخبار اليوم وعمل مراسلاً حربياً، ولكن الأدب اجتذبه مثل النداهة، فعمل في قسم التحقيقات ثم انتقل إلى القسم الأدبي، وأسس جريدة أخبار الأدب في عام 1993 التي رأس تحريرها واحتضنت إبداعات المئات من المبدعين، وسجلت حضوراً قوياً في المشهد الأدبي العربي. وعلى مدار رحلته الإبداعية كتب الغيطاني أكثر من 50 قصة قصيرة ورواية من بينها الزيني بركات، أوراق شاب عاش منذ ألف عام، أرض أرض، الزويل، وقائع حارة الزعفراني، حكايات الغريب، ذكر ما جرى، خطط الغيطاني، كتاب التجليات (ثلاثة أسفار)، رسالة البصائر في المصائر، هاتف المغيب، ثمار الوقت، أسبلة القاهرة، مختارات أبي حيان التوحيدي، خلسات الكرى، حكاية الخبيئة، والمجالس المحفوظية. وحصل الأديب الراحل على العديد من الجوائز فنال جائزة الدولة التشجيعية للرواية عام 1980، جائزة سلطان العويس عام 1997، وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى، وسام الاستحقاق الفرنسي عام 1987، وجائزة الدولة التقديرية عام 2007. وفي حوار للغيطاني مع «الرؤية» نشر في 4 سبتمبر 2013 اعترف الأديب الكبير: «أعي أن ما تبقى من الحياة قليل، وفي جعبتي الكثير لأكتبه، وهذه هي مهمتي الرئيسة في الوقت الحالي». عذراً أديبنا الكبير، المهمة انتهت والقلم توقف وما توقف نهر الحب والتقدير والتأثير في قلوب ووجدان مريديك.