كاجوجة أمي

لن أنسى تلك اليدين الممزوجتين بألوان خيوط الكاجوجة والمعروقتين بالعطاء المطلق، كما قلبها وروحها .. يدان تعتنيان بالكاجوجة كما حنانها بأطفالها .. أنامل تعمل على قمعين ملتصقين بحلقتين على قاعدة لتثبيت وسادة قطنية بيضاوية الشكل، تلف عليها الخيوط الذهبية والفضية والملونة، عبر بكرات الخيوط المستخدمة لإنجاز شريط «التلي» وصفّها حسب نوع وحجم التطريز .. تلك هي صديقة أمي المحببة التي أعطتنا دروساً من كل خيط ولون، حيث كانت تجمع ستة خيوط مع الخوصة بعقدة محكمة وتداولها على محور الوسط، ويتخلل الخوص خيوط الصوف الملونة بشكل هندسي مرتب وجميل أشبه بخلية النحل، لتكون في النهاية الحصيلة شكلاً من التطريز الفريد. في الكاجوجة، تتشابك خيوط حنان أمي مع ألوان الحب الذي يتدفق من قلبها، كما ألوان الربيع الذي يضج بالأمل والفرح المتجدد، فمنذ أن فتحت أجفاني على هذه الدنيا وهي تنسج جدائل من الفضة والذهب، كما تنسج الحب لأبنائها بخيوط الرقة والحنان .. تلك القطعة الرئيسة التي كانت تطرز ملابسنا في الصغر بأروع دلالات الجمال والتأنق .. تلك الكاجوجة التي كانت أمي تقضي جل وقتها معها بعد عناء يوم مليء بالمسؤوليات المنزلية. كاجوجة أمي، لم تكن مجرد مهنة، فالمتمعن في تلك الخيوط وهي تتخلل الخوص، وتصنع جدائل بجميع تعقيداتها المتداخلة لتنتج شريط تلي عريضاً يستخدم في زينة الملابس، يدرك أن هناك رسالة بين تلك الخيوط مفادها أن الحياة مهما تعقدت لا بد أن تتلون بالفرح والأمل. الكاجوجة، هي حكاية أمي وكل أم في الإمارات، ترددت كثيراً قبل كتابة هذه الأسطر عن سيدة الكون .. فالكلمات والحروف لن تكفي .. هي من أنارت طريق حياتي، هي من أرشدتني إلى صنع المستقبل، هي التي تحملت متاعب ومصاعب الحياة من أجلي، وسهرت الليالي على راحتي .. وفي هذا الإطار لن يتسع قاموس كلماتي لعبارات تتجاوز معانيها قيمة الوفاء لسيدة التسامح والعطاء. الأم ليست كلمة، إنما قيمة تنثر معاني الحب والعطاء والحنان والتضحية .. تعطي ولا تنتظر أن تأخذ .. هي سبب وجودي في هذه الحياة، وسبب نجاحي. أمي التي نسجت بأناملها خيوط النجاح لي ولإخوتي ليكتمل رداء التألق والتأنق .. تنسج بصفاء قلبها اليوم وكل يوم، أمل مستقبل مرصع بالحنان والوفاء والعطاء .. هي الأم التي تريد أن تحافظ، كما أمهات الإمارات، على الثروة الإنسانية قبل المكتسبات الوطنية .. كل عام وأمهات الإمارات مشاعل نور وتاج عز وفخر.