السبت - 27 أبريل 2024
السبت - 27 أبريل 2024

مهرجان الأضواء .. حكايات الفريج وأساطير الأولين .. استنارة للعقل وتبديد لظلمة القلوب

في الإمارة الباسمة، الضوء ليس وسيطاً للرؤية بل كائناً يرسم ويعزف ويهمس ويسرد، إبداع يعكس حسناً وانعكاس يبرز جمالاً، هو الليل في أبهى صوره والعمارة تتأنق للمارة، الضوء فرشاة للزخرفة ويراع يخط ولا يشوه بل ينير بنايات أشبه بلوحات، وعقول تستنير ومعالم للفن تهفو وتستجير. يلفنا مهرجان الشارقة للأضواء في دورته الثامنة بالألوان والأنوار والظلال والتشكيل والعمارة عبر 18 موقعاً تحاصرك بالجمال فأين المفر؟ تنثر بريقها على أرض إمارة الأحلام والبسمة والتنوير في «قلب الشارقة» النابض محبة وأصالة وإنسانية. وظل المهرجان منذ انطلاقته جسراً للتواصل الحضاري والتبادل الثقافي مع شعوب العالم عبر الفن، ملخصاً لنا ببساطة فلسفة الشارقة الثقافية، حيث تمتزج الحضارة المعاصرة برائحة التراث الذي يحمل حكمة وفلسفة الأجداد، أضواء تشي بحكايات المدينة وقصص البسطاء وحكمة العظماء. هنا النور وتر يعزف نغم المحبة والخلود، ومشهد تراه بقلبك ويسكن أعماقك، تجتره وتستدعيه كلما ألمّ بك قبح أو اشتهت نفسك الجمال أو همت مع الخيال. هنا التاريخ يروي والنفوس ترتوي، هنا حكايات وذكريات، مآثر النجباء وجسارة الأبطال، الإنسان في أنقى صورة لا تحرقه الأضواء أو تجذبه بل تحفزه وتلهمه، هنا النور يبتسم بحب وحنو وزهو. «الرؤية» استهلت جولتها في قلب مدينة الشارقة، حيث ينثال سحر ألوان مهرجان الأضواء ليسلط الضوء على الماضي المعتق بذكريات الأجداد عبر عروض فنتازية استنطقت قصص الآباء واستشرفت أحلام المستقبل. عروض تتناغم بين الإضاءة والألوان من جهة وطاقة الحركة والتشكيل من جهة أخرى عبر لوحات فنية رسمها أبرع الفنانين في العالم، وكأنك تسمع الطاهر بن جلون يبشرنا بأن «الضوء يفتح القلوب ويشرح الصدور. إنه علامة بهجة إنه علامة سخاء وأريحية». أو تتفق مع جبران خليل جبران «إذا كنت لا ترى غير ما يكشف عنه الضوء ولا تسمع غير ما يعلن عنه الصوت، فأنت في الحق لا تبصر ولا تسمع». من أمام حصن الشارقة وبوابته التاريخية بدأنا في رحلة طويلة عبر دروبه لنغوص في أسرار أحجاره وحنايا السرد الموسيقي للقصص التي تحكي عن التاريخ بالضوء. استجلى المهرجان مدارات التاريخ وخفايا الحديث متنقلاً بوعي وإبداع من الواقع إلى الرمز، فتارة تحكي العروض الضوئية قصة الصحراء وعزف كثبانها الذهبية، وتارة أخرى ننتقل إلى أجواء قريقعان عبر فيديو يعرض زهراوات ينثرن المرح والفرح في أروقة الفريج. عروض ضوئية تفاعلية تمسك بتلابيب الدهشة، وعندما تنتهي من زيارة الحصن ستجد نفسك وجهاً لوجه مع معهد المسرح. تخال وكأن أبوالفنون يتبنى وليده «التشكيل بالأضواء»، وكأنك تشاهد دراما الضوء والظل، نصاً غير مكتوب ولكنه مرسوم يناجيك ويربت على كتفك لينبهك أن للمسرح في الشارقة مكانة أثيرة ونصيراً مستداماً وسلطاناً للفكر المستنير. هنا نتذكر أن بداية فن الأضواء كانت مع نهاية القرن الـ 19 ولكنه لم يكتسب الانتشار والشرعية الفنية إلا في نهايات القرن الـ 20 والفضل لعمل رائد في عام 1969 كجزء من برنامج تجريبي في متحف لوس أنجلوس للفن، بإبداع روبرت إروين وجيمس توريل. وهنا في إباء كبير تقف المدينة الجامعية ببراعة فنية تزدان قمم مبانيها بطراز معماري فريد، لتعلن عن نفسها مدينة للمعرفة، وكأن الضوء هنا يشاطرها الجهد في تبديد ظلمة العقول قبل ظلمة المكان، وكأنها مدن العلم والصحوة غرناطة العصية على النسيان أو دمشق العصية على التدمير. وفي دارة الدكتور سلطان القاسمي للدراسات الخليجية، اعتمد الفنانون في تصميم هذا العرض على السرد الضوئي الذي نسج خيوطه من نول الأنوار للكشف عن المتواري في عناق قوي بين البصر والبصيرة وتواشج الإفصاح والإخفاء. وللمساجد في الشارقة رونقها وروحانيتها، حيث الصلة بين الأرض والسماء، النفس والروح، الإنسان وخالقه. تنظر فتشعر وكأن الأضواء تتبتل وترتل وتسبح باسم الله تنير الإنسان قبل أن تنير المكان، تشكيلات تجمع بين الحسي والمجرد في مخاطبته لخيال المتلقي، تذكرنا بسماحة ومحبة وجمال ودين أنزل رحمة للعالمين. وفي واحة النخيل التي تستقبل آلاف الزوار كل يوم، تحكي الأضواء قصص الفنتازيا الفنية متوهجة من نور وكأنها جنان متلألئة، وكأنك تردد رائعة علي بن الجهم: كن كالنخيل عن الأحقاد مرتفعاً يرمى بصخر فيلقي أطيب الثمر وفي بحيرة خالد، يصالح الضوء الماء ويصاحبه وكأنك تسمع صوت شلالات من الأضواء وخرير ماء على سطح بحيرة تعكس أصالة وجمالاً ومحبة، ألوان وأضواء لا تغرق بل تطفو وتتهادى، تراها فلا تملك إلا أن تقول .. الله!